ولما وصل إليها ونازلها واشتغل بحصارها جاءت الأخبار بوصول التتار على ثلاث فرق: فرقة من جهة الروم مقدمهم صمغار وينجي وطرنجي، وفرقة من الشرق مقدمهم بيدو بن طرغاي أخي أبغا بن هلاون وصحبته صاحب ماردين وصاحب آمد، والفرقة الثالثة وفيها معظم العسكر وشره المغول صحبة منكوتمر بن هلاون، وتواترت الأخبار بذلك وتداركت القصاد بقربهم من بلد الروم وأن صاحب سيس خرج إليهم من طريق الدّربساك.
وكتب السلطان متواترة إلى سنقر الأشقر يستميله عن سوء رأيه، ويقبح عليه ما ظهر من غدره ومناصرته الكفر على الإسلام آخر عمره.
ولما تحقق الأمير عز الدين الأفوم مقاربة التتار الفرات رحل عن شيزر وكتب إلى سنقر الأشقر بمثل ما أشاربه السلطان إليه من التعنيف والتخويف والترهيب والترغيب، فجنح إلى سلم الإسلام وأصاخ إلى التوبيخ والملام، ونزل من صهيون إلى الجراص على عزم إنجاد المسلمين والرجوع إلى مظافرة الدين، وجفل عسكر حلب وحمص وحماة.
ولما تواترت الأخبار لمجئ التتار، ومال سنقر الأشقر إلى الصلح والإنقياد والرجوع عما هو فيه، تأهّب السلطان الملك المنصور للسفر إلى جهة الشام، وفوض السلطنة لولىّ عهده ولده الملك الصالح علاء الدين عليّ، وذلك بعد أن جمع الأمراء الكبار، وعرض عليهم تفويض السلطنة إليه، والكل رضوا بذلك، وفرحوا على ذلك، واتفقت آراؤهم عليه، فعند ذلك ركب بشعار السلطنة، وشّق المدينة، وطلع القلعة، وجلس على مرتبته، وكتب له تقليد شريف نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أثق.
الحمد لله الذي شرّف سرير الملك بعليه، وحاطه منه بوصيّه، وعضد منصوره بولاية عهد مهديّه، وأسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عديّه، وأبهج خير الآباء بخير الأبناء بمن يسموا أبيه منه تشريف الخلق أبيّه، وغدّي روضه بمتابعة وسميّه ومسارعة وليّه، نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر، وأضافت إلى نور الشمس هداية القمر، وداركت بالبحر وباركت في النهر، وأجملت المبتداء وأحسنت الخبر، وجمعت في لذاذة الأوقات وطيبها بين رقّة الآصال ورقّة البكر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تلبس الألسنة منها في كلّ ساعة جديدا، وتتفيّأ منها ظلّا مديدا، ويستقرب منها من الآمال ما يراه سرابا بعيدا، ونصلى على سيدنا محمد الذي طهّر الله به هذه الأمة من الأدناس، وجعلها بهدايته زاكية الغراس، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصلاة بالناس، ومنهم من بنى الله به قواعد الدين وجعله موطّد الأساس، ومنهم من جهّز العسرة وواسى بماله حين الضرّاء واليأس، ومنهم من قال عنه صلى الله عليه وسلّم: " لأعطن الراية غداً رجلاّ يحبه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله " فحسن الالتماس بذلك الاقتباس، وزاد في شرفه بأن طهرّ أهل بيته وأذهب عنهم الأرجاس، صلاة لا تزال تردد تردّد الأنفاس، ولا تبرح في الإناء حسنة الإيناس.
وبعد: فإن خير من شرفت مراتب السلطنة بحلوله، وفوقت ملابس التحكيم لقبوله، ومن يزهى مطالع الملك بإشراقه، وتتبادر الممالك مذعنّة لاستحقاقه، ومن يزدهي به ملك منصوره، نصره الله، موطده وولى عهده، مكنه الله بأبيه، ومن يتشّرف إيوان عظمة إن غاب والده في مصلحة الإسلام، فهو صدره، وإن حضر فهو ثانيه، ومن يتحمل غاب الإيالة منه بخير شبل كفل ليثا، ويتكمل غوث الأمة بخير وابل خلف غيثاً، ومن ألهم الأخلاق الملوكية وأوتى حكمها صبياً، ومن خصصته أدعية الأبوّة الشريفة بصالحها ولم يكن بدعائها شقياً، ومن ترفّعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها علياً، ومن هو أحق بأ، ينجب الأمل فيه وينجح، وأولى بأن يتلى له أخلفنى في قومى وأصلح، ومن هو بكل خير ملّى، ومن إذا فوضت إليه أمور المسلمين كان أشرف من لأمورهم يبلى، ومن يتحقق من والده الماضي الغرار ومن اسمه العالي المنار أن لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا على.