قد ذكرنا أن أباه بايع له الأمراء في حياته، فلما توفي أبوه بويع له بالملك وله تسع عشرة سنة، ومشت الأمور في أول الأمر على السعادة، ثم أنه غلبت عليه الخاصكية، فجعل يلعب معهم في الميدان الأخضر فيما قيل أول هوى، فربما جاءت النوبة عليه، فأنكرت الأمراء الكبار ذلك، وأنفوا أن يكون ملكهم يلعب به الغلمان، فراسلوه ليرجع عن ذلك، فلم يقبل، فخلعوه كما ذكرنا، وولوا أخاه الملك العادل، ثم خلعوه كما ذكرنا، ثم ولوا الملك المنصور قلاون، وأرسلوا الملك السعيد إلى الكرك كما ذكرنا، ثم كانت وفاته بالكرك يوم الجمعة الحادى والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة، وسبب ذلك أنه لعب بالأكرة في ميدان الكرك، فتقنطر به فرسه ومرض أياما ومات، وحمل إلى دمشق، فدفن في تربة أبيه الملك الظاهر، وعمل عزاه بمصر في الثاني والعشرين من ذي القعدة.
وقال ابن الكثير: ويقال إنه سمّ، والله اعلم، فدفن أولا عند قبر حعفر الطيار وأصحابه رضى الله عنهم بمؤته، ثم نقل إلى تربة أبيه سنة ثمانين وستمائة.
قال بيبرس: بقي مصبرّا في تابوت مدةً، ثم حمل إلى تربة أبيه.
ولما مات الملك السعيد كان نائبه في الكرك علاء الدين أيدغدى الحرانى الظاهرىّ، فاتفق هو ومن معه وأقاموا أخاه نجم الدين خضر مقامه، ولقبوه بالملك المسعود، وشرع المماليك الذي حوله في سوء التدبير وفرط التقرير، فأنفقوا الأموال، واستخدموا على زعمهم الرجال طمما في استرجاع الفائت واستدراك الفارط. هيهات، وقد أراد الله تعالى نقض القواعد الظاهرية بإظهار الدولة المنصورية، وتوجه منهم جماعة إلى الصلت، فأخذوها وأرسلوا إلى صرخد، فلم يقدروا عليها، وكاتبوا شمس الدين سنقر وراسلوه في الاتفاق، ودبت بينهم عقارب النفاق، وكان سنقر الأشقر قد خرج عن الطاعة.
ولما كان يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة ركب الأمير سنقر من دار السعادة بعد صلاة العصر، وبين يديه جماعة من الأمراء والجند مشاة، وقصد باب القلعة الذي بلى المدينة، فهجم منه ودخلها، واستدعى بالأمراء، فبايعهم له، وتسلطن وتلقب بالملك الكامل، وأقام بها، ونادت المنادية بدمشق بذلك، فلما أصبح يوم السبت استدعى بالقضاة والإعيان والعلماء ورؤساء البلد وأكابر الدولة إلى مسجد أبي الدرداء رضي الله عنه، فحلفّهم وحلف لهم، وحلف له أيضا بقية الأمراء والعسكر، وأرسل عسكرا إلى غزة لحفظ الأطراف وأخذ الغلات.
وقال بيبرس: أوهم الأمير شمس الدين سنقر المذكور أمراء الشام وأكابرها أن السلطان الملك المنصور قد قتل على القمز، واستحلفهم لنفسه، معتقدين عدم السلطان، وركب بشعار السلطنة.
ولما تولى نيابة دمشق استقر بها في شهر جمادى الآخرة من هذه السنة شرع في تسلم القلاع من يد النواب الظاهرية، وترتيب النواب المنصورية، فسولت له نفسه الاستبداد بالسلطنة في الشام وأعماله، وخطر هذا الأمر بباله، فعند ذلك جمع الأمراء وجرى منه ما ذكرناه الآن.
ذكر تجريد السلطان الملك المنصور الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار إلى الشام وصحبنه بعض العسكر لينازل الكرك على طريق الإرهاب:
فتوجه في آخر ذي الحجة من ديار المصرية سالكا على طريق الكفرين ونمرين وأريحا، ولما بلغ ذلك شمس الدين سنقر الأشقر توهم أنه واصل لحربه وأخذه، فكتب إليه كتابا ينهاه عن المسير ويثبطه عن المصيّر مضمونه: إنني مهدت الشام، وفتحت القلاع، وبذلت في خدمة السلطان مالم يبذله أحد، وكان شرطى معه أن أكون حاكما من الفرات إلى العريش، فاستناب أقوش النشممى بحلب، وعلاء الدين الكبكى بصفد، وسيف الطباخى بحصن الأكراد، وآخر الحال يسير إلى من يمسكنى، فلا تقطع العقبة، ولا تدن من البلاد، وإن غررت فقد عينا لك الضيافة، واتبع كتابه بتجريد يزك إلى أريد لحفظ الطريق.