قال بيبرس: شرع في التجهيز وإحضار الخيول من الربيع، وطرد الجند المتفرقين بالديار المصرية، ورحل في سابع ربيع الآخر، فوصل إلى غزة في العشرين منه، فوردت إليه مطالعة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي نائب السلطنة بالشام، معطوفة على بطاقة وصلت إليه من الملك المنصور صاحب حماة، وكان قد توجه صحبة الأمير عز الدين يوغان والأمراء المجردين إلى البيرة، مضمونها أنهم لما وصلوا اليها، وشاهدهم التتار النازلون عليها، انهزموا، وكان درباي المذكور قد نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقا، فلما ولوا هاربين عدى العسكر القرات ونهبوا المجانيق، وسائر الآلات، فلما وردت هذه الأخبار بهزيمة التتار، استبشر السلطان، وثنى العنان قاصداً بلاد الفرنج، فنزل على قيسارية.

ذكر فتوح قيسارية الشام

نزل السلطان عليها يوم الخميس تاسع جمادي الأولى، وللوقت) نصبت عليها المجانيق (وأطافت بها العسكر، وعمدوا إلى سكك الخيل جعلوها أوتادا، وتعلقوا فيها من كل جانب وطلعوا اليها، ونصبوا السناجق السلطانية عليها، وحرقت أبوابها، وهتك حجابها، فهرب أهلها إلى قلعتها، فجد العسكر في الحصار، فلما كان ليلة الخميس منتصف جمادي الأولى هربت الفرنج، وأسلموا القلعة بمافيها، فتسلق المسلمون إليها من الأسوار واستولوا عليها، ورسم السلطان بهدم مبانيها، فهدمت) وهى أول فتوح السلطان الملك الظاهر رحمه الله (.

ثم توجه السلطان إلى جهة عثليت جريدة، وبث عساكره تشنُّ الغارات وتقول يا للثارات، وجرد عسكرا إلى حيفا، فدخلوها، فنجا الفرنج بأنفسهم إلى المراكب، وأخرجت المدينة وقلعتها في يوم واحد. ووصل إلى عثليث وعاد عنها، وقد ترك أهلها في حبس منها، فنزل على أرسوف.

ذكر فتح أرسوف

وكان نزول السلطان عليها في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة، ورامتها العساكر بالسهام والمجانيق، وضيقوا عليها أنواع التضييق، وتمكنوا منها، وأطلعوا السناجق السلطانية عليها، فما أحسَّ الفرنج إلا وقد خالطهم المسلمون، وأنشبت فيهم براثنها المنون، قبل أن يسألوا الأمان، ويبذلوا الطاعة والإذعان، فتسلمها السلطان في يوم الخميس، وأسر أهلها وأرسلهم إلى الكرك مصفدين.

قال بيبرس رحمه الله: وحضرت هذه الغزاة مع الجيش وكنت إذ ذاك الوقت في خدمة الأمير سيف الدين المخدوم، وأراد به قلاون لأنه مملوكه، قال: كنت في سن المراهق أو قريبا منه، وكنت أجُرُ الجنيب، ولما ملكها قسم أبراجها على الأمراء ليهدموها، وجعل هدمها دستورهم.

وقال محي الدين بن عبد الظاهر أبياتاً يصف فيها هذه الفتوح منها:

لا يسحب الناس قيساريَّة ضعفت ... وأسلمت نفسها من خبقة رهًبا

لكنه بذُيول النصر قد علِقت ... وقد أتته لعكا تطلب الحَسَبَا

كذاك أرسوف لما حاز غايتها ... ما جاء مختطبا بل جاء مُختطبا

لئن غدا آخذ الدنيا ومُعطيها ... فإنه أحسن التعميم مُحتْسِبا

ذكر البلاد التي ملكها للأمراء لما ملكها

ولما استولى السلطان على هذه الفتوح، جعلها لأمرائه من إنعامه الممنوح، فقسمها عليهم بتواقيع بأيديهم، وكتب بالتمليك توقيعاً جامعاً نسخته:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015