وكذلك لما أراد أن يبني الرّافقة بأرض الروم امتنع أهل الرّقة، وأرادوا محاربتَه، وقالوا: تعطّل علينا أسواقنا، وتذهب بمعاشنا، وتضيق منازلنا، فهمَّ بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصَّوْمعة، فقال: هل عندك علم أن يبني هاهنا مدينة؟ فقال له: بلغني أنّ رجلًا يقال له مِقلاص يبنيها، قال: أنا مقلاص؛ فبناها على بناء مدينة بَغْداد سوَى السّور وأبواب الحديد وخندقٍ منفرد. [7/ 614 - 618].
وذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحبّ أن ينظر إليها عَيانًا، فأمر أن يخطّ بالرّماد، ثم أقبل يدخل من كلّ باب، ويمرّ في فُصلانها وطاقاتها ورحابها؛ وهي مخطوطة بالرّماد، ودار عليهم ينظر إليهم وإلى ما خطّ من خنادقها؛ فلما فعل ذلك أمر أن يجعل على تلك الخطوط حبّ القطن، وينصب عليه النِّفْط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم، ثم ابتدئ في عملها.
وذُكِر عن حمّاد التركيّ أنّ المنصور بعثَ رجالًا يطلبون له موضعًا يبني فيه المدينة، فطلبوا ذلك في سنة أربع وأربعين ومئة، قبل خروج محمد بن عبد الله بسنَة أو نحوها، فوقع اختيارهم على موضع بغداد؛ قرية على شاطئ الصراة؛ مما يلِي الخُلْد، وكان في موضع بناء الخُلْد دَيْر، وكان في قَرْن الصَّرَاة مما يلي الخُلْد من الجانب الشرقيّ أيضًا قرية وَديْر كبير كانت تسمّى سوق البقر؛ وكانت القرية تسمى العتِيقة؛ وهي التي افتتحها المثنّى بن حارثة الشيبانيّ، قال: وجاء المنصور، فنزل الدّيْر الذي في موضع الخُلْد على الصّراة، فوجده قليل البقّ، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه المِيرة من الفُرات ودِجْلة، ويصلح أن تبتني فيه مدينة؛ فقال للراهب الذي في الدير: يا راهب، أريد أن أبني هاهنا مدينة، فقال: لا يكون، إنما يَبني هاهنا مِلك يقال له أبو الدوانيق؛ فضحك المنصور في نفسه، وقال: أنا أبو الدوانيق وأمر فخُطّت المدينة، ووكَّل بها أربعة قوّاد، كلّ قائد بربع.
وذُكر عن سليمان بن مجالد، أنّ المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضَاء، فامتنع من ذلك، فحلف المنصور أن يتولّى له، وحلف أبو حنيفة ألّا يفعل، فولّاه القيام ببناء المدينة، وضرْب اللَّبِن وعدّه، وأخْذ الرجال