إن الله يضل الكافر على علم عنده؛ لأنه يعلم أن هذا الكافر لا يستحق إلا الكفر، وأن هذا الظالم لا يستحق إلا الظلم، وذلك قول الله جلياً: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل:36] بمحض فضل ونعمة، ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] يعني: هو لا يريد الهداية.
وقال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا} [الصف:5]، إذاً: هم الذين يريدون الزيغ، ولما علم الله من قلوبهم الظلم والعتو والطغيان والزيغ والكفر يسر لهم أبواب الكفر، وهذا هو الفارق بينه وبين المدرس تعالى الله، فالمدرس لا يقدِّر شيئاً على الطالب، لكن الله يتحكم في إرادة الكافر ليكفر، فسد عليه كل منافذ الخير، وفتح عليه كل أبواب الشر؛ لأنه يعلم من يستحق الهداية ممن لا يستحقها.
والآن نتكلم عن معنى الحكمة فالحكمة: هي أن تضع الشيء في موضعه المستحق له، وعلى هذا فهل الله تعالى سيأخذ أبا جهل ويدخله الفردوس الأعلى، ويأخذ عثمان ويدخله نار جهنم؟ تعالى الله عن ذلك، فالحكمة إذاً: هي أن يأخذ الظالم الجهول أبا جهل ويجعله في الدرك الأسفل من النار، ويأخذ عثمان التقي المؤمن ويجعله في الفردوس.
ومن قال بعكس ذلك نقول له: قدحت في حكمة الله، فتكفير الله للكافر كان نتيجة لحكمته؛ لأن الله يغار أن يضع اللؤلؤ بين البهائم، فالله يغار أن يضع الخير في غير موضعه، وحتى البشر يغارون من وضع الشيء النفيس في غير مكانه، فقد كان الإمام مالك يقول: أربأ بعلمي أن يذهب لمن لا يستحقه، لما سأله رجل فقال: أجبني فلم يجبه، فقال الرجل لـ مالك: من كتم علماً ألجمه الله بلجام من النار، فقال مالك: نح نفسك عني ائتني بمن يفقه ما أقول، ثم حدثني عن حديث اللجام، ولذلك قال الإمام الشافعي: أأنثر درراً وسط سارحة النعم.
وكذلك الإمام البخاري حدثت له قصة وإن كان فيها كلام، ولكن العلماء يذكرونها للاعتبار بسعة علم الإمام البخاري وذلك أنه عندما اختبره المحدثون وقلبوا عليه الأسانيد والمتون، فكلما يقولون له: حديث أنس بسند كذا، فيقول البخاري: لا أعرفه هكذا حتى ذكروا له مائة حديث، وقد كان الناس أتوا ليسمعوا للبخاري جبل الحفظ، فالجهال لما رأوا ذلك قالوا: أهذا البخاري؟ إنه لا يعرف حديثاً، فقد ذكروا له أحاديث وهو لا يعرفها، وكلما ذكروا له حديثاً يقول: لا أعرفه، ولكن العلماء فطنوا لقوة ودقة نظر البخاري وشدة حفظه، فاتهموه وقالوا: إن هذا يأخذ دواء يذهب النسيان، فإذا بـ البخاري يأخذ المائة حديث عشرة عشرة، فقال للأول: أما أنت فأسانيدك كذا ومتونها كذا فأخرج الإسناد المركب على غير متنه وأعاده إلى متنه حتى وصل إلى المائة، فطارت عقول المحدثين، وأذعنوا جميعاً بقوة علم البخاري.
والمقصود أن الجهلة يضيعون أهل العلم، فيضع الله الهداية لأهلها، ويضع الكفر لأهله، ولذلك قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10] فمن الذي ييسر لليسرى ومن الذي يغلق أبواب الخير عن غير أهلها؟ الجواب صريح في قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وهذه الآية فيها رد على المثل السابق الذي لا يمكن أن يقوله إلا المعتزلة، وقد قال لي بعض الأفاضل: إن من يقول هذا ربما وهم وروجع فرجع وهذا محتمل، لكنني أحببت أن أبين ذلك.