وهنا ننبه على خطأ فادح يقع فيه كثير من الدعاة وكثير من أهل العلم، وهذا الخطأ الفادح هو في ضرب المثل على علم الله، فيقول بعضهم: إذا أردت أن تؤمن بالقدر فتقريب القول في ذلك: أن المدرس في الفصل ينظر إلى التلاميذ ويقول: هذا التلميذ سيأتي في الامتحان بالدرجة النهائية، والثاني أقل منه والثالث أقل منهما ويحدد درجة كل منهم؛ لأنه يعرف البليد من الذكي، فكتب المدرس في كتاب عنده: درجة محمد ثلاثون من ثلاثين، ودرجة زيد خمسة وعشرون، ودرجة عبيد صفر، وفي نهاية الامتحانات جاءت نتيجة الطلاب مطابقة لما كتبه المدرس عنده في ورقة قبل الامتحان.
ثم يقولون: كذلك القدر ولله المثل الأعلى، وهذا القول اعتزال محض، وهذا المثل ضربه الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه، والشيخ الشعراوي كان في فكرة شيء من عقيدة الأشاعرة وشيء من عقيدة المعتزلة، وإن كانت هذه إن شاء الله تغمر في بحر حسناته، ويغفر الله له زلاته، ولكن هذا اعتزال محض، إذ إن المعتزلة الذين ينفون القدر منهم من ينفي العلم كلية، ومنهم من يثبت العلم، لكن ينفي الإرادة، فالمعتزلة أصل في نفي القدر -وهم القدرية الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم مجوس هذه الأمة) - يقولون: نحن نؤمن بالقدر لكنهم ينفون علم الله أصالةً فيقولون: لا يعلم الله ما يفعل العباد إلا حين يفعلونه، وهم في هذا قد وافقوا اليهود حينما قالوا: بكى الله وحصل الرمد لعينه عندما رأى الفساد في الأرض متفشياً.
ويعنون: أن الله خلق الخلق ولا يعرف أنهم سيفسدون فلما وجد الفساد بكى أنهاراً.
قاتلهم الله على إفكهم هذا وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فاليهود يقولون: الله لا يعلم، وهؤلاء المعتزلة يقولون: الله لا يعلم والعياذ بالله، وعندما وجدوا رماح الحق والسيوف البتارة من أهل السنة والجماعة تلاحقهم قالوا: رقابنا ستطير إذا قلنا بإنكار العلم؛ لأن الشافعي الفقيه المجتهد المحدث قال: ناظروا المعتزلة بالعلم فإن أقروا فقد خصموا، يعني: لو قالوا: إن الله يعلم، نقول: انتهى الأمر، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وإن أنكروا كفروا، فانظروا إلى دقة هذا العالم كيف يأتي بالمبتدع ويجعله في مكان لا يقدر على الهرب منه، ويقول له: ليس لك إلا أن تقر بما نقر به أو تخرج عن دائرة الإسلام، فإن أقروا بعلم الله ذهبت بدعتهم، وإن أنكروا علم الله كفروا؛ لأنهم سينكرون علم الله جل في علاه بعدما قامت الحجة عليهم، فيقتلون بذلك، فقدماء المعتزلة يقولون بنفي العلم، أما المتأخرون منهم فلما خشي كل واحد منهم على نفسه من السيف البتار من أهل السنة قالوا: نسكتهم بإثبات العلم ونقول: إن الله يعلم، ثم ننفي الإرادة والقدرة، فنقول: إن الله لا يستطيع أن يضل أحداً ولا يستطيع أن يهدي أحداً، وهذا هو نتيجة هذا المثال الذي يخطئ بعض الدعاة في ضربه لبيان القدر، فهذا المثال كأنه معتزلي محض؛ لأن نتيجة المثال أن الذي حصل على ثلاثين حصل عليها لأنه ممتاز، والذي حصل على خمسة وعشرين حصل عليها لأنه متوسط، والذي حصل على صفر حصل عليه لأنه بليد، فالمدرس ما حرك إرادة وذكاء التلميذ حتى يأخذ الثلاثين ولا حرك إرادة البليد حتى يأخذ صفراً، إذاً: هو ليس له إرادة ولا يتحكم بذلك، وهذا هو الاعتزال، لأن ربنا يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهو الذي يتحكم في إضلال الكفار، وهو الذي يتحكم في هداية المؤمنين، لكنه يفعل كل ذلك بالحكمة والعلم.