كل شيء بقدر

ثم قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال لما تقدم من أن الله خالق كل شيء وأنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر: (قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ) : (إنا) الضمير يعود إلى الرب جل وعلا، وتكلم الله عز وجل بضمير الجمع، وهو يريد التعظيم لنفسه جل وعلا، (كل شيء) : يشمل كل شيء في هذا الكون، فكل شيء في هذا العالم قد خلقه الله عز وجل بقدر، (بقدر) : الباء هنا سببية، ويمكن أن تكون للمصاحبة؛ يعني: أنه مع تقدير، وليس خالياً عن التقدير فهو متلبس بتقدير الله عز وجل، وقدر الله محيط به، وقد روى الإمام مسلم عن طاوس قال: (أدركت أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر) ، وهذه حكاية لإجماع الصحابة على هذا.

ثم قال رحمه الله: (وسمعت عبد الله بن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) يعني: حتى الضعف وعدم إدراك ما تحب، والكيس، أي: الفطنة والذكاء وإدراك المطلوب، فكل شيء بقضاء وقدر، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وهذا إجماع أهل الإسلام.

فقد دلت الأدلة في الكتاب والسنة ودل أيضاً إجماع سلف الأمة على أنه ما من شيء إلا بقضاء وقدر، وعلى هذا مضى أهل العلم وأئمة الدين، ولم يقع خلاف في ذلك إلا عند أن تكلم معبد الجهني فيما يتعلق بالقدر وأن الأمر أنف، وقد رد الصحابة رضي الله عنهم عليه كـ ابن عمر وواثلة بن الأسقع وغيرهما، فردوا على هذه الشبهة، وبينوا خطرها، وأنه لا يبلغ الإنسان الإيمان إلا بأن يسلم لله عز وجل ويؤمن بالقدر.

قال رحمه الله في ذكر الأدلة: (وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] ) أي: خلق كل شيء مصاحباً للقدر، فليس هناك شيء بلا تقدير، فقد خلق كل شيء وقدر كل شيء تقديراً، وأكد القدر بذكر المصدر تأكيداً له وتقريراً لمعناه، وأنه لا شيء إلا بقدر، وأما الخلق فإنه لم يؤكد فقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان:2] ، أما القدر فذكره مؤكداً لتقريره ولنفي شبه المعارضين الذين يقولون: إن الله جل وعلا لم يقدر بعض أفعال الخلق، وليس كل شيء بقضائه وقدره.

ثم قال رحمه الله: (وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ) .

هذه الآية من الأدلة الدالة على ما تقدم من أنه ما من شيء في الكون من حركة وسكون يقع من الأنفس إلا بقضاء الله وقدره، يقول الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) ، وهذا يشمل كل ما يصيب الإنسان وينزل به مما يفرح به ويسر، ومما يسوءه ويكدره، فكل شيء بقضاء وقدر، فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] أي: أنه مكتوب، وهذا يدل على شيئين: على علم الله بهذا المصاب وبهذا النازل، وعلى أنه سبحانه وتعالى قد كتبه، وهذه الآية تدل على العلم وتدل على الكتابة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015