وعن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: [تعرف قيمة السلعة بقيمة مشتريها]، فأنت حين ترى إنساناً يشتري بناء أو منزلاً فاخراً بمال كثير تدرك أن هذا الرجل ثري، ثم يقول: [والسلعة تعرف بقيمة مشتريها، وبالثمن المبذول فيها، وبالمنادي الذي ينادي عليها، فإذا كانت السلعة هي النفس، والمشتري هو الله، والثمن هو الجنة، والمنادي سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم]، وقطعاً فإن الله لن يشتري نفساً أمارة بالسوء، وإنما يشتري النفس المطمئنة، لأن الإنسان الذي باع إنما يبيع شيئاً ليس بكاسد، وما دام باع فسيسلم البيع أو السلعة قبل ما تفسد، فأنت سلم نفسك الآن لله رب العالمين؛ فقد تكون هذه الأيام أفضل من الأيام الآتية.
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
إن قلب العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن، فالعبد ما دام قد باع نفسه لله فليضمن أن المشتري هو الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، و (اشترى) فعل ماض، والأنفس والأموال هما في الأصل ملك لله، فلا يوجد كما يقال: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وإنما: دع ما لقيصر لله، وما لله لله؛ لأن كل شيء لله.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يحرق البيوت على أناس تخلفوا عن صلاة الجماعة، ولذلك لا يتخلف عن صلاة العشاء وصلاة الصبح إلا المنافقون، وهذه من علامات النفاق؛ لأن الظهر يأتي علينا وكلنا في أعمالنا، فيصلي بعض الناس لكي يقول عنه زملاؤه أو مديره في العمل: إنه يصلي.
فالكارثة أننا نصلي الظهر والعصر في الشغل لكي يقول الناس: إننا ملتزمون، لكن لا يخرج من بيته يصلي الفجر، وربما يخرج إلى المسجد ويوقظ حارس العمارة ويقول له: لماذا لا تفتح لي الباب وأنت تعرف أنني أخرج كل يوم لصلاة الفجر؟ حتى يسمع الجيران أنه يصلي الفجر.
فالذي لا يصلي الفجر منافق، فمن لا يصلي صلاة الفجر والعشاء في المسجد فهذا دليل على النفاق، والعياذ بالله.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة)، فالذي يمشي إلى المسجد في الظلام في الدنيا، سيمشي بنور الله يوم القيامة، لأن الله لا بد أن يعوضه عن هذا يوم القيامة، وكذلك حرم عليه الخمر في الدنيا، وجعل في الجنة أنهاراً من خمر، وهذه الخمر ليس فيها سكر، {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47]، أي: لا تغتال العقول ولا تذهبها.
وكذلك الحرير حرمه الله على الرجال في الدنيا وأباحه لهم في الجنة، فإنهم يلبسون الحرير ويجلسون عليه، فإذا كانت المقاعد في الجنة بطائنها من إستبرق وهو الحرير، فكيف بظاهرها؟ فإذا حرمت على نفسك الحرير في الدنيا فالله يعوضك بالحرير في الجنة، وإذا حرمت على نفسك الخمر في الدنيا فالله لن يضيع عليك شيئاً، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].
إذاً: إذا رأى العبد أن الناس قد فرحوا بالدنيا وما فيها فليفرح هو بالله، وبلقاء الله، أو يفرح بصدقة عملها، أو مصلحة لشخص قضاها، أو يفرح أن فلاناً تصالح مع زوجته ولا يفرح لخراب البيوت كما يحصل من بعض الناس، وبعض الناس يظل يسعى إلى خراب البيوت حتى يخربها بقصد أو بدون قصد.
فالأم المفوهة عندما تأتي إليها ابنتها غاضبة من زوجها تقول لها: انتبهي! على زوجك، فإنك لو أطعته ستدخلين الجنة، ولو صبرت عليه سيكرمك الله، فتقول لها كلاماً يطيب نفسها، ولا تحرضها ضد زوجها، فالأم تكون ناصحة وحنونة، ولا تكون هي التي تصب الزيت على النار، وتقول لها: لا تعودي لزوجك حتى يأتي إلى هنا ويعتذر ويأتي معه أبوه وأمه.
فلماذا نوسع المشكلة؟ ولماذا لا نضيق عليها؟ أعرف آباء إذا رجعت ابنته من عند زوجها غاضبة منه وقد طردها من بيته، يقول لها: ارجعي إلى بيت زوجك وسآتي وأصلح بينكما في بيت زوجك، فترجع إلى بيت زوجها.
وقد حصل هذا الموقف لرجل فاضل عنده بنات متزوجات، وإحدى بناته أتت من بيت زوجها وهي غاضبة، فأمها أثارتها على زوجها، وهي تقول: لقد أغضبني وضربني وو وهو لم يعمل بها شيئاً، والزوجات أحياناً قد يكذبن على النفس، وليس معنى هذا أن الزوجات غير طيبات.
ولكن الذي أريد أن أقوله أن الأب الناصح والأم الناصحة لا يوسعون القضية، فقال لها أبوها: ارجعي إلى بيتك.
فقالت له: لقد قال لي اذهبي إلى بيت أهلك فقال لها: أنا لا أقبل أن ابنتي تأتي إلي وتقول مشكلتها وزوجها غير موجود، فاذهبي إلى بيت زوجك وسوف آتي وأرى ماذا حصل؟ فعادت إلى بيت زوجها، وبينما هي تطرق الباب فتح زوجها الباب وكان يظن أن أباها معها، فقال: تفضل يا عم! فقالت له: لقد أتيت بمفردي، فاستغرب وقال: لقد ذبحني عمي بهذا التصرف، وفي الليل أتى حموه إليه ومعه زوجته، فأتت البنت تشتكي فقال لها: أريد أن أسمع زوجك أولاً، فقال له: خيراً ماذا حصل؟ فقال له: أنا رجل قليل الأدب لأنني أخرجت زوجتي من البيت، وانتهى الموضوع، فلم يجد الأب رداً على كلامه.
ونحن للأسف الشديد نريد جنازة يحصل فيها لطم، ويوجد ناس من الحزن وكثرة الاكتئاب يتابع صفحة الوفيات بالجرائد، ويتذكر ويبكي، ويبحث عن أي شيء يجلب له الحزن، فهذه أشياء غريبة.
وبعض الناس لابد أن يشتكي، حتى من أي شيء.