قال ابن القيم رحمه الله: [القرآن كلام الله] ولذلك أهل العلم يقولون عن القرآن: كلام الله لفظ قائم، ومعنى في هذا اللفظ، ورضاك بينهما ماض، بين اللفظ وبين المعنى، أي: أن اللفظ يأتي مع المعنى، فنحن ندرك عند قراءة القرآن أن هذا أمر وهذا نهي، وهذا وعد وهذا وعيد، وهذا تبشير وهذا نذير وهكذا.
ثم يقول: [القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته] فنحن نجد صفات الله كلها في كتاب الله عز وجل.
[يتجلى تارة في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء]، أي أن الله سبحانه وتعالى يتكلم عن بعض صفاته عن الهيبة، وعن العظمة، ومن ذلك قوله تعالى: {أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] لفظ يجعل العبد يخاف! ثم يقول ابن القيم رحمه الله: [ما قرئ القرآن على جبار إلا وتصاغر]، بشرط أن الذي يقرأ القرآن يقرؤه من قلب صادق، ولعلنا نذكر الشيخ: محمد رفعت رحمة الله عليه، فقد منع من التسجيل في الإذاعة؛ لأنه استضيف ذات مرة في قصر عابدين ليقرأ إذا جاء الملك، فأول ما دخل الملك قرأ قوله تعالى من سورة النمل: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، فغضب الملك جداً، ومنع الشيخ أن يسجل القرآن بهذا الصوت الملائكي الجميل، رحمه الله ورحم الله كل من حفظ القرآن حياً وميتاً، اللهم احفظ علينا القرآن ونعمنا به في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين.
ثم يقول ابن القيم رحمه الله: [وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال]، أي: أن الله سبحانه وتعالى يعطينا دون أن نسأل، ولو أن الله أعطانا بحسب الدعاء فقط لانقطعت عنا النعم التي تغمرنا.
فنعمة التنفس -الشهيق والزفير- بعدد 16 مرة في الدقيقة، ونبضات القلب من 70 إلى 80 مرة في الدقيقة! أعضاء آلية لا يتدخل العبد فيها ولا يدعو الله تعالى أن يمنحه إياها، ولا يشعر الإنسان بهذه النعمة إلا إذا أصيب بمرض يعيق عملها، كالأزمة الربوية، أو أمراض القلب.
وهكذا غيرها من الأعضاء في بدن الإنسان، لا يعرف المرء أهميتها إلا إذا أصيب بمرض يعيق عملها، ومع أنه لا يسأل كل تلك النعم فإنه يعطاها بلا مسألة من الكريم سبحانه، وفي الحديث: (أن أعرابياً دخل على رسول الله فقال: يا رسول الله! من يحاسبنا يوم القيامة؟ قال: إن الذي يحاسبنا هو الله، قال: والله إذاً لا أبالي ما دام أن الله هو الذي يحاسبنا فهو الكريم وإن الكريم إذا رأى ستر وإذا قدر عفا).
وفي الحديث القدسي: (يا عبدي لا تشكني إلى عوادك)، أي: عندما تمرض أو تحل بك أزمة فلا تشكني إلى الذي أتى يزورك (فكم من ذنب منك يصعد إلي بالليل والنهار ولم أشكك إلى ملائكتي)، بل إن الله ينسي الأرض وينسي الليل وينسي النهار وبقية الشهود العشرة التي ستشهد علينا بالحسنات أو بالسيئات يوم القيامة، اللهم اغفر لنا يا أرحم الراحمين كل ذنوبنا يا أكرم الأكرمين.
ومعنى قوله: [وجمال الأفعال]، أي: أن كل الذي يأتي من عند الله خير، أما من أين يأتي الشر؟ فإنه منك أنت، لا ينسب الشر إلى الله إنما الخير كل الخير من الله عز وجل.
ولذلك قد أرى أن صورة من الصور، أو حالة من الأحوال سيئة، كأن يحصل لك موقف مع زوجتك، أو أبيها أو ابنك، أو غيرهم، فالصورة الظاهرية أنه ابتلاء، لكن الصورة الحقيقية أنها نعمة يسوقها الله في صورة بلية! قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض الناس بالنعم فقد تأتي البلية بصورة نعمة وتأتي النعمة في صورة بلية، فتجد من رزقه كفاف قد أعطي صحة وعافية فإذا فتح عليه باب المال فتح عليه باب المرض، وهكذا.
وللتقريب نضرب هذا المثال: لو أن الدكتور قال لك: لا ينفع مع أصبع ابنك هذا إلا أن يقطع، فهل أنت حين توافق الطبيب قاس على ابنك أم رحيم به؟ لا شك أنك رحيم، وترى أن صلاح الولد في كلام الطبيب وأن الأصبع لابد أن يقطع أو الذراع أو الرجل، أما الابن الصغير فإنه يرى أن أباه قاس عليه يوافق الدكتور أن يقطع له أصبعه! {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فالله يعلم أن في هذه البلية صلاحك، وأن المرض في ميزان حسناتك، وأن المصيبة إن احتسبتها رفعت درجتك.