يقول ابن القيم: [غرس الخلوة يثمر الأنس].
أي: أنك حين تخلو بالله وحدك تشعر بالأنس، فالثمرة التي تجنيها من الخلوة مع الله الأنس والطمأنينة، وإن وصفك الناس أنك منعزل، أو قالوا: هذا انعزالي: هذا طريقه من البيت إلى الجامع لا عمل له.
والحقيقة أن ذلك ليس عيباً.
ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: [استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك] يريد بقوله: مما لا يدوم معك الدنيا وما فيها، فالدنيا وما فيها ستفارقك قطعاً، فحقها أن تلاقيها بالوحشة لا بالأنس، وقوله: واستأنس بمن لا يفارقك، يريد أن تستأنس بالله وبالعمل الصالح.
ثم يبين العزلة المستحبة فيقول: [عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها] وذلك لأن الجاهل حين يعتزل من غير أن يتعلم يجهل كيفيات العبادة، وأوقاتها، وماهيات القربات، لكن العالم حين يعتزل الناس قد أخذ عدة عزلته، ثم يستطرد مع العزلة فيقول: [إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة، استحضر الفقه وجرت بينهم مناجاة: أتاك حديث لا يمل سماعه.
].
أي: إذا اجتمع عقل المؤمن مع يقينه في الله عز وجل في بيت العزلة، حيث يبتعد فيه عن السوء والصحبة، إذ إن الأرواح تحن لأشكالها، فلو أن إحدى الأخوات خرجت من هنا فوجدت بنتاً في الأسفل ترتدي البنطلون وقد وضعت على وجهها مساحيق الزينة، وبجوارها أخرى عليها جلبابها فإنها قطعاً ستجلس إلى الثانية دون الأولى، فهي لا تتنسم نسيم الراحة إلا مع أختها، ولا تأنس وتطمئن إلا إليها، أما الأولى فإنها لا تأنس معها؛ لأن المؤمن إلف ألوف، كما أنه لو دخل مؤمن إلى مجلس فيه مائة منافق، وبينهم مؤمن واحد لجلس بجوار المؤمن وهو لا يعرفه؛ لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
والعزلة التي يريدها ابن القيم هي عن السوء والصحبة، وإعمال الفكر في خلق الله عز وجل.
وقوله: (أتاك حديث لا يمل سماعه)، يريد به القرآن، فالقرآن هو الوحيد الذي لا يمل سماعه، فأنت لو شاهدت مسرحية ضاحكة لأول مرة ستضحك من مشاهدها، لكنك لو تشاهدها مرة ثانية لن تضحك كالأولى بل ربما تضجر، وهكذا القصائد والأفلام وغيرها تمل من كثرة التكرار، لكن القرآن لا يمل أبداً، فلو قرأت مثلاً سورة يوسف مائتين مرة فإنك في كل مرة تكتشف معنى جديداً، ولذلك كان من معجزات القرآن أنه لا يخلق على كثرة الرد، ومعنى: لا يخلق: لا يبلى، ومنه الثوب الخلق أي: الثوب القديم، فمعنى قولنا: لا يخلق القرآن على كثرة الرد، أي: لا يصبح القرآن قديماً بالياً من كثرة قراءته، بل يبقى غضاً طرياً كأني أسمعه لأول مرة.
ثم يستطرد ابن القيم -رحمه الله- في وصف القرآن فيقول: [أتاك حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونظامه].
فما من مؤمن صادق يحدث له ضيق صدر يقوم فيتوضأ ويقرأ أي صفحة من القرآن إلا ذهب عنه الضيق، أما لو كان لا يزال في أول الطريق فنقول له: اقرأ سورة يوسف؛ لأن سورة يوسف ما قرأها حزين إلا وفرحه الله.
وينبه هنا على أنه لابد أن يكون عنده استعداد لتلقي كلمات الله، ولابد حين يقرأ أن يخلي ذهنه من الشواغل، بل يصب تركيزه على تدبر كلمات الله، فإنه إن فعلها تحصل له أثرها بإذن الله.