يقول ابن القيم: [لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى]؛ لأن اللص لا يمشي إلا في الليل، المثل الإنجليزي يقول: الطيور الشريرة لا تطير إلا ليلاً، فالخفاش لا يطير إلا في الليل والبومة لا تطير إلا في الليل، وهكذا اللص لا يسير إلا خلسة، فهو دائماً يمشي في الظلمات، وكأن ابن القيم يريد أن يقول: إن الهوى يحدث في القلب ظلمة فالمطلوب أن ينور القلب بالإيمان وبالتقوى وبذكر الله وبمجالس العلم، فهذه إذاً العوامل التي تضيء القلب، فلا تجعله حريصاً، وطالما وجدت مدارس العلم ونحن نستمع إليها فإن النور يقهر الظلام ويحل مكانه.
[وحبة المشتهي تحت فخ التلف] يريد بحبة المشتهي: ما يشتهي أن يأخذه أحد من حاجة معينة، وكأن المشتهي طائر يريد أن يلتقط حبة من شرك، ونضرب مثلاً بالمرشحين في الانتخابات، فكل واحد منهم يريد أن يأخذ كرسياً في البرلمان، يحصل له بسببه حصانة ومركز مرموق، وهذا وأمثاله ما عبر عنها ابن القيم بحبة المشتهي.
أما كونها تحت فخ التلف، فهو فخ منصوب فالمرشح في مثل هذه الانتخابات يصرف أموالاً طائلة من أجل أن يصل إلى ما يريد.
فـ ابن القيم -رحمه الله- بقوله: حبة المشتهي تحت فخ التلف، يناديك: يا مؤمن! تيقن أنك لو أخذت حبة المشتهي ونزلت في الفخ سيمسكك الصياد، وإذا أمسكك فسوف يذبحك، والصياد يتمثل في: إبليس والدنيا، قال سيدنا أبو بكر الصديق: إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي فالمؤمن يضع في ذهنه النهاية والعاقبة، مثله كمثل الطالب المجد طوال السنة تراه يسهر طوال الليل، يبذل الجهد تلو الجهد وفي آخر السنة تطغى حلاوة التفوق على ألم الاستذكار، فالذي جعله صابراً على هذا حلاوة النجاح.
قيل لـ إبراهيم بن أدهم: يا إبراهيم! من أين تعلمت العلم؟ قال: تعلمته من رجل أسير، قيل: أنت يا إمام المسلمين تعلمت من رجل أسير!! قال: بل قال لي جملة واحدة، ثم قال: مررت بصومعة راهب في الشام فقلت: أيها الراهب! منذ كم وأنت ههنا؟ قال له: يا إبراهيم! منذ سبعين سنة، فقلت له: سبعين سنة وأنت في هذه الصومعة، ما الذي يصبرك على هذا الشقاء؟ قال: أتباعي لهم يوم في السنة يأتون فيه إلي ليحتفلوا بي، فيزينوا المكان ويذبحوا الذبائح ويجمعوا الناس فأنا أصبر السنة كلها لأجل ما يحدث في هذا اليوم، فقلت له: ومتى سيكون ذلك؟ قال: هذا بعد أسبوع، فقلت: سأجلس معك إلى أن يأتي هذا اليوم.
فقعد إبراهيم بن أدهم يرقب اليوم حتى أتى، فرأى الناس يفدون على الراهب ويزينون المكان ويذبحون الذبائح مبتهجين.
فدنا الراهب من إبراهيم وأعطاه كيساً فيه بضع حبات من قمح وقال له: ساومهم على شرائها فقال إبراهيم: من يشتري حبات الراهب؟ فقالوا جميعاً: نشتري، بكم الحبة؟ قال أحدهم: أنا أشتري الحبة بعشرة دنانير، وقال آخر: أنا أشتريها بمائة، فوزع على كل واحد منهم حبة بمائة دينار.
ولا عجب فنحن نرى اليوم البابا في الفاتيكان يخرج من الشرفة ثم يرش ماء البركة بزعمه فمن وقعت على وجهه قطرة منه فقد غفر له بزعمهم ورضي عنه الرب.
ثم قال الراهب: يا إبراهيم! أرأيت كيف أني أصبر العام كله من أجل يوم وأنت لا تريد أن تصبر العمر من أجل جنة عرضها السموات والأرض، يا إبراهيم! أرأيت كيف يعتز مخلوق بعطية مخلوق فيشتريها والله سبحانه قد اشترى منك نفسك ومالك فهل بعت لله يا إبراهيم؟ وبذلك نكون قد أدركنا معنى قول ابن القيم: حبة المشتهي تحت فخ التلف فتفكر للذبح، المؤمن الناصح يرى الفخ، لكن المؤمن العاصي يرى الحبة، وقد هان الصبر، وقد تقدم قول الحسن البصري: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لفضل العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني، فما بالكم ونحن نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي!! يفرض جدلاً أن الدنيا ذهب، لكنه فاني، والآخرة عبارة عن قليل من الخزف لكنه باقي، نجد أن العاقل يفضل الباقي ويختاره على الفاني وإن كان ذهباً.
لكن الحقيقة أن الدنيا عبارة عن خزف فان والآخرة عبارة عن ذهب باق، وللأسف أنا نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي.
[البخيل فقير لا يؤجر على فقره] أي أنه سبب فقر نفسه، قال علي بن أبي طالب: عجباً للبخيل يعيش عيشة الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء.
فهو في الدنيا من رآه ظن أنه مسكين، لكن الله يحاسبه على أنه غني، وحساب الغني في القيامة يطول، وفي الحديث أن المرء يسأل (عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فالبخيل فقير لا يؤجر على فقره.
قيل لـ مادر -رجل يضرب به المثل في البخل فيقال: أبخل من مادر -: ممن تعلمت البخل؟ قال: من قبيلتي، قالوا: كيف ذلك؟ قال: كنت أخرج وإخواني للصيد، فإذا ما انتهينا وضع كل منا صيده في القدر فكان كل واحد منهم يربط قطعة اللحم التي يملكها فيظل ممسكاً بها حتى لا تختلط.
قال ابن القيم: [الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن] قوله: عطش الضر: هو الإنسان يحرم من نعمة معينة، وإنما سماه ابن القيم: عطش الضر؛ لأنه يتضرر منه، كأن لا يوجد للإنسان ولد يرثه، أو كان عنده بنتان ويريد ذكراً، أو كان عنده ولد عاق وكان يتمنى ولداً طائعاً، أو كان لا يمتلك نقوداً ويتمنى أن يصبح عنده نقود، أو كان يرغب أن يصبح وزيراً ولم يحصل ذلك، وغيرها من النعم المسلوبة.
أما سلعة المن، فالمراد العطية يعطيها ثم يمن على من أعطاه بها، فالصبر على عطش الضر خير من الشرب من سلعة المن، ومن العجيب ما يقع فيه البعض في لحظات الضعف الإيماني إذ يمنون على الله -والعياذ بالله- في الركيعات التي يؤدونها حتى يقول قائلهم: أنا أصلي من ثلاثين سنة ولا يوجد عيل إلا في منزلي!! وغيرها من المقولات التي لا ينبغي أن يكررها مسلم إذ المنة كلها لله وحده، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
فالمنة أولاً وأخيراً لله رب العالمين لا شريك له.
ثم يقول مؤكداً معنى قوله: الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن: [تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها] وهذا مثل عربي معروف، أي: أن الحرة تجوع ولا تتاجر بعرضها، لكن أصحاب الفن والسينما يجعلونك تتعاطف مع الراقصة، فتجد من يقول: هذه مسكينة غدرها زوجها وليس لها حظ، وتظل هي تبكي وتقول: فأنا بدلاً من أن أسرق أو أشحت أشتغل بشرف!! ولعمري عن أي شرف تتحدث هذه الراقصة.
وقد فوجئت قبل أيام بخبر في الأخبار: أنه في يوم السبت الماضي قبضت شرطة الآداب على ثلاث رقاصات يرقصن من غير ترخيص، وهذه أول مرة أعرف في الحقيقة أن هناك تراخيص تمنح للراقصات، ولا أدري أي جهة تمنح التراخيص.
ثم يحث ابن القيم على التوجه لله وحده فيقول: [لا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه]، ومثل ذلك أن ابنك يذهب لجارك ويقول له: يا عم! أعطني جنيهاً فيقول الجار في نفسه: إن جاري بخيل، فأنت بدلاً من أن تقول: يا رب! تقول: يا عبد الله، إذاً أنت تشنع على الله.
فمثلك حين تطلب من غير الله كمثل العبد الذي يطلب من غير سيده فيشنع على السيد بالبخل.