قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أحب أن أكون من المقربين].
الرجل الذي كان في مجلس عبد الله بن مسعود يقول: أنا لا أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أحب أن أكون من المقربين، مثل الذي يقول: أنا لا أريد أن أنجح فقط، ولكن أريد أن أكون من الأوائل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال عبد الله: لكن ههنا رجلاً ود أنه إذا مات لم يبعث، يعني نفسه].
التابعي هو الذي عاصر جيل الصحابة، والصحابي هو الذي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك، فكل من لحق أحداً من الصحابة يسمى: تابعياً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالرجل الذي جلس عند عبد الله بن مسعود كان يقول: أنا لا أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أحب أن أكون من المقربين، فأجابه عبد الله بن مسعود بأنه يوجد هاهنا رجل يود أن لا يبعث، فهذا يدل على شدة خوفه من الله عز وجل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وخرج ذات يوم فاتبعه ناس، فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نمشي معك.
قال: ارجعوا فإنه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع].
كان عبد الله بن مسعود يخاف على نفسه من الفتنة، فقفل الباب عليهم عندما سألهم: ألكم حاجة؟! فعندما لم تكن لهم حاجة، أمرهم بألا يتبعوه، لأنه ذل لهم وفتنة له.
ولذلك عندما كان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان في الحج، وكان يريد أن يصل إلى الحجر الأسود، فمن الزحمة لم يستطع أن يصل، فلما أتى علي زين العابدين أمر الناس بأن يوسعوا لأمير المؤمنين، ثم انصرف، فعندما سأل أمير المؤمنين: من هذا الذي فعل هذا؟ فقالوا له: هذا زين العابدين علي بن الحسين، قال: والله! هذا هو العز كله.
والمقصود بالعز هنا أن الناس تحبك لله، لكن عندما تحبك الناس لمالك، فلو ضاع المال ضاعت المحبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي، لحثوتم على رأسي التراب].
وهنا تساؤل: إذا كان هذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول يضمن له الجنة، ومات وهو راض عنه، وعنده من العلم ما عنده، ورغم ذلك يقول: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي، لحثوتم على رأسي التراب؟ قال أهل العلم: إن الله عز وجل من رحمته أنه إذا أحب عبداً رفع من أمامه كل عمل صالح، فلا يرى نفسه عمل صالحاً قط.
ولكن بعض الناس يحضر مجلس علم أو محاضرة كل أربع سنين، فيجد نفسه يرى أنه فعل شيئاً كبيراً، وذلك الآخر الذي يصلي بخشوع مرة في اليوم، وتجده يقول: لقد صليت بخشوع هذا اليوم، ويرى أنه أفضل الناس.
لكن هذا عندما أحبه الله رفع من أمامه العمل الصالح، فيجد نفسه لم يعمل شيئاً، ولذلك يقول: أنا إنسان سيئ، ويقولها بصدق، لا يقولها نفاقاً ولا رياءً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال: حبذا المكروهان: الموت والفقر].
أي: أنه كان يحب شيئين يكرههما الناس: الموت والفقر.
وقال أبو ذر: أحب الجوع والمرض والموت، فقالوا له: لماذا؟ فقال: أنا إن جعت رق قلبي، وإن مرضت خف ذنبي، وإذا مت لقيت ربي.
لكن إذا كان عند الإنسان المال والصحة فإنه ينسى هذا كله، نسأل الله السلامة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال: إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة؛ فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له].
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (اعلم أن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا يمنعه عنك كراهة كاره).
فمثلاً: لو كان هناك رجل يعيش في ظلام وقفلت عليه الأبواب، وأراد أن يرى نور الشمس، فإن عليه أن يطرق باب الله والوقوف على باب الله، مثلما تكون عندك مشكلة مصيرية، وحل هذه المشكلة عند مسئول أو وزير مثلاً، فأنت تجلس عند بيته ليلاً ونهاراً، وحتى لو سافر فإنك ستنتظره إلى أن يأتي حتى يحل لك مشكلتك؛ فلن تفارق بابه حتى يحل لك مشكلتك، ولله المثل الأعلى، فإذا أردت أن يقضي الله حاجتك فأنخ راحلتك بباب الله، واطرق الباب ولابد أن يفتح لك باباً، ولكن ادع الله دعاء مستنجد لا دعاء ناج، ادع الله كالمضطر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، فلا بد من الذل لله.