قال: [وسأذكر في هذين الوجهين ما يكون فيه بلاغ لمن قبل النصيحة، وكان بقلبه أدنى حياء إن شاء الله].
فيبدأ رحمه الله بحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتركوني ما تركتكم)] , وهذا الخطاب في عمومه موجه للأمة كلها، وليس خاصاً بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(اتركوني ما تركتكم)] يعني: لا تجادلوني ولا تخاصموني ولا تسألوني حتى أبادركم بالعلم.
قال: [(اتركوني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاعملوا منه ما استطعتم)].
وجاء في الحديث: (قام رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام -لما فرض الله عز وجل الحج- فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، فأعاد عليه ثانية: يا رسول الله آلحج كل عام؟ فسكت، حتى أعادها عليه ثلاثاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم) يعني: لو رددت عليك بالإيجاب لكان الحج واجباً على كل مسلم في كل عام، والمعلوم قطعاً أن أحداً لا يقدر على ذلك، والحج فرض في العمر مرة، وما دون ذلك فهو نافلة.
ثم قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم)] يعني: إذا لم أحدثكم بشيء ابتداءً فلا تحدثوني وتنازعوني وتخاصموني وتحاجوني فيه؛ لأن هذا كان سبب هلاك الأمم من قبلكم: كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فسبب هلاك بني إسرائيل وسبب ضلالهم: أن الله شدد عليهم لما شددوا على أنفسهم.
فمثلاً: قصة البقرة، فقد فرض الله تعالى على بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، ثم سألوا عن هيئة البقرة، ولون البقرة، وصفات البقرة، ولو سكتوا من أول الأمر لكان يجزئهم ذبح أي بقرة، ولكنهم شددوا وتعنتوا حتى اختار الله عز وجل لهم بقرة واحدة لا مثيل لها، فبحثوا عنها ونقبوا عنها وتعبوا أيما تعب، ولما وصلوا إلى البقرة المعلومة المعينة المذكورة بأماراتها وأوصافها غالى صاحبها أيما مغالاة في ثمنها، فوقعوا في مشقة أخرى؛ لأنهم لم يسمعوا ويطيعوا من أول الأمر، بل جادلوا وكثرت أسئلتهم.