قال ابن بطة: ومن مغالطات الجهمية المعتزلة -الدرجة الثانية- وتمويههم على الناس قولهم: إن الله تعالى منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود.
هذا كلام جميل في الجملة في الظاهر، لكن مقصودهم غير ذلك.
قال: ومقصودهم بذلك: نفي الأفعال ونفي مباينة الله تعالى للخلق، وعلوه على العرش، فإذا قالوا: إن الله منزه عن الأعراض، لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر؛ لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد.
الأعراض كالصحة والسقم والمرض وغير ذلك، فلا شك أن الله تعالى لا يفسد ولا يمرض فهو منزه عن الأعراض، فكل ما يصيبني من أعراض الحياة من غنى وفقر، وصحة وسقم، وطلوع ونزول وغير ذلك من صفات المخلوقين الله تعالى منزه عنها، أي: لا يصيبه آفات كما تصيب المخلوقين، فلا شك أن هذا كلام جميل، ولا ريب أن الله تعالى منزه عن ذلك، لكن مقصودهم بهذا القول: (إن الله منزه عن الأعراض) أنه ليس له علم؛ لأن العلم بالنسبة لي عرض، كنت جاهلاً فتعلمت، كنت عدماً فأحدثت بعد ذلك، كنت عدماً فصرت بعد العدم كائناً حياً، كنت ميتاً ثم صرت حياً.
قال: ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة، ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها أعراضاً.
إذاً: قولهم: إن الله منزه عن الأعراض أي: منزه عن صفاته التي وردت في القرآن والسنة.
ونقول لهم: كيف يثبت الله تعالى لنفسه الصفة وأنفيها أنا زاعماً التنزيه، هل أنا أعلم بالله من الله؟ إن الله تعالى أعلم بذاته من سائر المخلوقين؛ ولذلك وصف نفسه بصفات، فلا يحل لآحاد الخلق أو للخلق أجمعين أن ينفوا هذه الصفات من باب التنزيه زعماً.
قال: وكذلك إذا قالوا: (إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات).
أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك: أنه لا تحصره المخلوقات، ولا شك أن هذا الكلام في ظاهره كلام جميل، أن الله تعالى حقاً لا تحصره المخلوقات ولا تحيط به المخلوقات، هذا كلام حق، لكن قولهم: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أنه ليس مبايناً للخلق، ولا منفصلاً عنه، يعني: أن الله تعالى داخل في مخلوقاته، يعني: لو سألنا: أين الله؟ لبادر جل الناس بقولهم: الله تعالى في كل مكان، أليس هذا الذي حفظناه وتعلمناه من آبائنا وأجدادنا والناس في الشوارع والمساجد؟ أليس هذا الذي تعلمناه؟ أين الله؟
صلى الله عليه وسلم في كل مكان، الجواب محفوظ وأسرع من السؤال، وهو أبطل البطلان، وأفسد الفساد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سأل جارية -بنتاً صغيرة- ترعى الأغنام: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله) جارية ترعى الأغنام تعقل عن الله عز وجل علوه واستواءه على عرشه على الحقيقة والمعنى اللائق به تعالى، جارية تفهم ما لا يفهمه معظم الأمة في هذا الزمان، ويبدو أنها لم يكن لها مجالس مع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت مجالسها مع سيدها الذي لطمها على خدها، ثم بعد ذلك أراد أن يكفر عن هذه اللطمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لطمت جاريتي؛ لأنها فعلت كيت وكيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية! أين الله؟ قالت: في السماء، ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة).
فأثبت لها الإيمان لصحة اعتقادها في علو الله تعالى وفوقيته واستوائه على العرش؛ ولو سألت أحد الناس الآن: أين الله؟ لقال: في كل مكان، والذي يقول: على العرش، هذا كذاب ومفتر، أليس الذي قال: إنه على العرش هو الله سبحانه وتعالى؟ ونبيه عليه الصلاة والسلام هو الذي أثبت له العلو على العرش والفوقية؟ فهل الله تعالى كذاب ومفتر؟! وهل رسوله كذاب ومفتر؟! بل الكذاب والمفتري هو الجاهل الذي قال على الله بغير علم كذباً وزوراً وافتراءً: إن الله تعالى ليس على العرش، بل هو مع خلقه في كل مكان، حتى إنهم أثبتوا أن الله تعالى في الحمامات وفي القاذورات وفي الحش وغير ذلك من الأماكن المستقذرة.
قالوا: لا يخلو منه مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! أما أهل السنة والجماعة فيقولون: الله تعالى مستو على عرشه، مع خلقه بعلمه وسمعه وإحاطته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، أي: بمقتضى أسمائه وصفاته هو مع خلقه، فمعيته ثابتة له، معية علم وسمع وإحاطة وإرادة ومشيئة وغير ذلك، أما الله تعالى فهو مستو على العرش، مباين لخلقه، أي: الله تعالى فوق السماوات السبع، مختلف عن خلقه، ليس الله تعالى بذاته في المكان الذي فيه خلقه، وإنما الله عز وجل مستو على العرش، استواءً يليق بجلاله وعظمته.
قال: ومقصودهم بذلك: أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب هو إلى شيء، ولا ترتفع إليه الأيدي في الدعاء، ونحو ذلك من معاني الجهمية.
كل هذا كلام قالت به الجهمية المعتزلة.
قال: وإذا قالوا: إنه ليس بجسم ب