قال ابن بطة رحمه الله: [ومع ذلك فإن الجهمية كغيرهم من الفرق ليسوا على رأي واحد، فقد تعددت أقوالهم وتشعبت آراؤهم].
دائماً المبتدع لا يمكن أن يستقر على بدعة واحدة إلى نهاية أمره؛ ولذلك يقول ابن الجوزي: وأصل البدع إما من المجوس أو من اليهود أو من النصارى، ودليل ذلك أن أهل البيت الواحد من النصارى إذا كانوا عشرة إذا اجتمعوا على مسألة فقال كل واحد منهم رأيه؛ تفرقوا على أحد عشر رأياً، وشيء غريب أن يكونوا عشرة فيخرجون بأحد عشر رأياً، فهل من الممكن أن يختلف شخص مع نفسه فيقول رأياً ثم يقول نقيض هذا الرأي في المجلس الواحد؟
صلى الله عليه وسلم نعم.
كاليهود فقد قالوا في عبد الله بن سلام: أنت سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا فلما قال لهم: أسلمت، قالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا وحقيرنا وابن حقيرنا، هكذا قالوا بالقول وضده في مجلس واحد.
وهذا شأن أهل البطلان والزيغ والضلال، لا يثبتون على رأي، بل يختلفون مع بعضهم البعض، وهذا شأن جماعة التفكير في هذا الزمان، يكفرون لأدنى معصية، فإذا قلت لهم: هل أنا أكفر بحلقي للحيتي؟ يقولون: نعم؛ لأنها معصية، فإن قلت أنت لأحدهم: وأنت ألست تلبس ثوباً قد نسجه الكفار؟ قال: نعم.
فإن قلت: هذه معصية أم لا؟ قال: نعم.
وإن قلت له: وما حكمك إذاً؟ قال: أنا كافر، وهذا كلام لا طعم له ولا لون ولا رائحة؛ ولذلك دائماً تسيطر على أهل البدع والضلال غياهب الجهالة فيكون منطلقهم في المناظرات والمناقشات الجهل، لا يحبون العلم، بل بينهم وبين العلم عداء، ولو تعلموا حقاً لاهتدوا؛ لأن العلم أعظم عاصم من هذه الأهواء والمضلات والفتن؛ ولذلك جعله الله عز وجل فريضة، قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أنس: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)؛ لأن المسلم لا نجاة له من هذه الأهواء والفتن إلا بطلب العلم على منهج السلف.
الجهمية كذلك ليسوا على مذهب واحد، ولا على كلام واحد؛ بل تعددت أهواؤهم وآراؤهم، وقد قسمهم العلامة الملطي حسب آرائهم إلى ثمانية أصناف، إذاً هم من حيث الدرجات ثلاثة ومن حيث الأصناف ثمانية على مذهب الملطي، لكل صنف منهم عدة آراء، وليس ما ذكره الملطي هو جماع آراء الجهمية، لكن هذه أصول المخالفات؛ والعلماء دائماً عندما يردون على المبتدعة يذكرون أصل الخلاف، لكن عندما يصنفون في الفروع تجد أن لهم أقوالاً لا يمكن أن تتصور أنهم قالوها! فلو نظرت إلى كتاب أبي الحسن الأشعري (مقالات الإسلاميين)، لوجدته كتاباً رائعاً جداً جداً جداً، ويحتاج كل سطر منه أن يشرح في ورقتين أو ثلاث ورقات، وأنا أسأل الله تعالى أن يسخر لهذا الكتاب رجلاً من أهل العلم يشرحه باستفاضة، ويضبطه على منهج أهل السنة والجماعة، فيخرج في أكثر من عشرين أو ثلاثين مجلداً مع أنه مجلد واحد؛ كما أنه لا ينصح أهل العلم قط بقراءة هذا الكتاب إلا رجلاً قد تمكنت من قلبه عقيدة أهل السنة والجماعة، ففي هذا الكتاب العجب من فروع الخلاف بين أهل الأهواء وأهل السنة والجماعة.
قال: للجهمية آراء كثيرة غير ما ذكرنا، ومن أهمها: منهم صنف من المعطلة يقولون: إن الله لا شيء، وما من شيء، ولا في شيء، ولا يقع عليه صفة شيء، ولا معرفة شيء، ولا توهم شيء، ولا يعرفون الله فيما زعموا إلا بالتخمين، فوقعوا عليه اسم الألوهية، ولا يصفونه بصفة يقع عليه الألوهية.
إن هذا الكلام يحتاج إلى شرح وبسط كثير جداً، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام سمى الله شيئاً، فقد قال في دعائه: (اللهم يا أحسن الأشياء! لا تجعلنا أهون الأشياء عليك)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ربه شيئاً، لكن ليس كبقية الأشياء، وشيء صفة في الله عز وجل، وهي تأخذ حكم بقية الصفات، فنقول: إن الله شيء لكن ليس كبقية الأشياء، وإنما يقع التوحيد في مجرد الاسم، فأنا شيء والله شيء، لكن شتان ما بين المخلوق والخالق سبحانه وتعالى.
فهؤلاء المعطلة زعموا أن الله ليس بشيء، أو لا شيء ولا منه شيء، ولا يكون في شيء وغير ذلك، وهذا كلام يحتاج إلى ضبط وتفنيد.
قال: ومنهم صنف زعموا أن الله شيء وليس كالأشياء، لا يقع عليه صفة ولا معرفة ولا توهم ولا نور ولا سمع ولا بصر.
إذاً: قولهم: أولاً: أن الله تعالى شيء ليس كالأشياء يوافقون أهل السنة والجماعة في هذا، أما قولهم بعد ذلك: أنه شيء ليس كالأشياء فهذا يعني عندهم: أنه ليس نوراً ولا سميعاً ولا بصيراً فهذا كلام يحتاج كذلك إلى ضبط وتفنيد سيكون في أثناء الشرح بإذن الله تعالى.
قال: ومنهم صنف زعموا أنه ليس بين الله وبين خلقه حجاب ولا خلل، وأنه لا يتخلص من خلقه ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع فلا يبقى من خلقه شيء، وهو مع الآخر في آخر خلقه ممتزج به إلى آخر كلام كثير جداً، ولولا أن الله تعالى حكا في كتابه مقالة الكافرين ما تجرأ الواحد منا أن يتكلم هذا الكلام.
قال: ومنهم صنف أنكروا أن يكون ا