وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل).
فهذا من خير المؤمنين، وهو من أفضل الناس وأحب الناس إلى الله عز وجل، فهو أنفع الناس للناس، وأنفع المسلمين للمسلمين، فهذا المجاهد في سبيل الله عز وجل بمجرد أن يأتي العدو إلى المكان فهو يطير إلى هذا المكان؛ من أجل يكف الشر عن الناس، فهذا يضحي بنفسه من أجل غيره من المسلمين، ويطلب القتل في مظانه.
قال: (ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه -أي: على ظهر الفرس- كلما سمع هيعة -صيحة الفزعة- أو فزعة طار عليه يبتغي القتل مظانه) يعني: هو حريص على الشهادة في سبيل الله سبحانه.
قال: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف).
وانظروا إلى هذا التعبير: (أو رجل في غنيمة)، فلو كان لديه قطيع من الغنم فمعناه أنه يريد الدنيا، لكن هذا في غنيمة قليلة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عز وجل عليه الفتوح وأصبح يملك مائة غنمة قال: (لا أحب أن تزيد) أي: لا أريد أكثر من ذلك.
وقد كان نصيبه صلى الله عليه وسلم في المغانم خمس الخمس، وكان له من الفيء الخمس، ومع ذلك ما كان عنده أكثر من مائة غنمة، فكان إذا ولدت واحده منها ذبح واحدة مكان هذه المولودة حتى لا تزيد.
وكأنه يعلم المؤمنين ألا يطمعوا، بل يأخذون من الدنيا على قدر حاجتهم، فإذا كان عندك مائة غنمة فلا تتمن أن تكون ألفاً وإنما تطلب الحاجة التي تحتاجها فقط.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف -أي: في رأس جبل من الجبال- أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين).
فهو يعطي الحقوق لأصحابها، فيقيم الصلاة، أي: لا يصلي فقط، بل يصلي ويقيم الصلاة، فيحسن صلاته، ويستقيم فيها، ويواظب عليها ولا يضيعها، ويحسنها كما يريد الله سبحانه.
(ويؤتي الزكاة)، وقد يقال: لمن سيعطي الزكاة إذا كان معتزلاً للناس؟!
و صلى الله عليه وسلم أنه لا يعتزل كل الناس، بل سيكون في وسط أناس يحتاجون، فيؤتي زكاة ماله لهؤلاء، إذاً: فليس المراد بالاعتزال أن يعتزل كل الناس، ولكن يعتزل أهل الشر من الناس ولو أن ينفرد وحده، أو ينفرد في مجموعات من الناس من أهل التقوى وأهل الإحسان.
(ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين) يعني: حتى يموت.
فالمؤمن يحب للناس الخير ولا يضن عنهم بخير، وهو لا يحسد أحداً على ما آتاه الله عز وجل من خير، بل يتمنى زيادة الخير، فيخالطهم كي ينفعهم، فإذا وجد المضرة في المخالطة اعتزل الناس إلا من خير.