من الأحاديث في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، (نهر) ساكنة ومحركة، وجاء القرآن بتحريكها فقط، وليس فيها قراءة بسكونها، وفي اللغة يجوز هذا ويجوز هذا، والتحريك أفصح، فهو الذي جاء به القرآن، والحديث يجوز فيه أن تقول: لو أن نهْراً ونهَراً.
وقوله: (بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟) درن الإنسان هو القاذورات التي تكون عليه والأوساخ التي تلطخ بدنه وثوبه، فلو أن الإنسان كل يوم يغتسل في نهر خمس مرات، فلن يبقى شيء من القاذورات على بدنه أو على ثوبه، وكذلك الصلوات الخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، كأن الخطايا والذنوب تلوث بدن العبد، بل تلوث قلبه، ولا تزال الذنوب نكتاً سوداء على قلب العبد، نكتة وراء أخرى إلى أن يسود القلب بالكلية، فهذه الصلوات الخمس تزيل وتمحو عنه هذه الذنوب واللطخ التي سودت قلبه وبدنه وعمله.
وحديث جابر بن عبد الله عند مسلم كحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، ففي حديث جابر قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، والنهر هنا على باب البيت؛ لأنه لو كان بعيداً سيتسخ في طريقه إلى البيت، وهذا النهر جارٍ؛ لأن النهر الراكد يمتلئ بالأتربة والغبار والنباتات والأعشاب التي تلوث الإنسان ولا تنظفه، والنهر الجاري يكون عميقاً ويكون سطحياً، وإذا كان هذا النهر الجاري عميقاً وغمراً وماؤه كثير وفي باب أحدكم فلا يمكن أن يكون ملوثاً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: إن هذا النهر الجاري لو أنك تغتسل فيه كل يوم خمس مرات فلن يبقى شيء من القاذروات على بدنك أو ثوبك، قال: (فكذلك مثل الصلوات الخمس).
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة)، وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة أفضل خلق الله عز وجل، ولكنهم ليسوا معصومين من الخطأ، فقد وقع بعضهم في الذنوب، وكانت رحمة من الله بنا أن وقع هؤلاء في الذنوب حتى لا نيأس من التوبة إذا وجدنا أن صحابياً أذنب ثم تاب إلى الله، ونزلت بسبب ذنبه وتوبته آية، وهذا فيه خير للمسلمين.
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم ولفظ البخاري: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره)، ولفظ مسلم: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها)، أي: أنه وهو في أقصى المدينة وجد امرأة تمشي وحدها فكأنه عالجها، ومعنى المعالجة: المحاولة إما بالكلام أو أنها التفتت إليه فقبلها أو أنه أخذ بيدها، قال: ما دون أن أمسها، أي: لم أطأها، وهذا يؤيد تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، أن ملامسة النساء بمعنى الوطء، ففيه: أن الذي يوجب الغسل هو وطء المرأة وليس مجرد اللمس، وقال ابن عباس: [إن الله حيي كريم]، فهو يكني ويتكلم بالشيء الذي يدل على الشيء الآخر، فيعبر بالمس عن الوطء والجماع.
وهذا الحديث يفيد هذا المعنى وهو: أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا لم أمسها، فلو لم يكن المس بمعنى الجماع لما كان صادقاً في قوله؛ لأنه قد قبلها، ولكنه يقصد أنه لم يجامعها ولم يقع معها في الزنا ولكنه قبلها، فجاء هذا الرجل من أقصى المدينة يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه قد تاب بعدما وقع في المعصية، وهكذا فإن الشيطان يدل الإنسان على المعصية ويدفعه إليها، وبعد أن يقع يتركه، فإما أن يستحلي المعصية ويقع فيها مرة ثانية وثالثة، وإما أن يراجع نفسه ويندم على ما صنع، وتوبة هذا الرجل كانت توبة صادقة، فقد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم باكياً تائباً لله عز وجل مما صنع، وقال له: هأنذا اقض في ما شئت، أي: اعمل في ما تريد، إما أن ترجمني وإما أن تجلدني، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبه، فقال عمر رضي الله عنه لهذا الرجل: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، أي: لو تبت بينك وبين الله ولم تفضح نفسك بهذا الذي فعلت، وهذا هو الأصل، فالإنسان لا ينبغي له أن يفضح نفسه إذا وقع في معصية وستر الله عز وجل عليه، وليتب إلى الله سبحانه وتعالى.
فانتظر الرجل جالساً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وكأنه يعاتبه على هذا الذي صنع، إلى أن قام الرجل وانصرف، فلما انصرف أنزل الله عز وجل على النبي صلوات الله وسلامه عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، وهذه الآية إما أنها نزلت قبل ذلك وهي في سورة مكية، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم جبريل ليعلمه بالحكم في هذه الحادثة، وفي هذه الحالة تكون هذه الآيات قد نزلت في مكة ثم نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في المدينة، أو جاء جبريل ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم يتعلق بهذه الواقعة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الرجل وقال: (ردوه علي، فرجع الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له -وكانوا قد أكملوا الصلاة-: هل صليت معنا؟ قال: نعم.
فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ففرح الرجل، وقال: ألي خاصة -أي: هل هذه الآية نزلت في أنا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لجميع أمتي كلهم).
إذاً: هذه الآية لكل من تاب إلى الله عز وجل، ورجع إلى ربه بالتوبة نادماً على ما فعل وصلى لله عز وجل فإنه يغفر له ويتوب عليه، ولكن على العبد ألا يغتر، ولا يقول: سوف أعمل المعصية ومن ثم أستغفر الله وأتوب إليه وأصلي ركعتين ويكفيني ذلك، ثم يفعل المعصية مرة أخرى، فالله عز وجل ذكر أنه غفور رحيم وأنه شديد العقاب، فعلى العبد أن يحسن الظن بالله عز وجل ويتوب إلى الله سبحانه، فإذا وقع في معصية وقصر رجع إلى الله وعاد على نفسه باللوم، والله عز وجل قد مدح الإنسان الذي يلوم نفسه في الله عز وجل.