وقوله أن لست رائيا أن مخففة من الثقيلة. والمعنى أفي الحق لست رائياً هذا الفتى إلا متوهماً أبد الدهر. وقوله توهما مصدر في موضع الحال.
وفائدة قوله عباد الله أنه رجع فيما كان لا يؤمن به ولا يسكن إليه شناعة وقباحة، إلى الناس كافة يستثبتهم ويستفتيهم.
فأقسم ما جشمته من مهمة ... تؤود كرام القوم إلا تجشما
ولا قلت مهلاً وهو غضبان قد غلا ... من الغيظ وسط القوم إلا تبسما
يصف رضاه وحسن طاعته له، وقوة نهضته بكل ما يحمله من الأثقال المتعبة، والآراب المثقلة، ودوام صبره على جميع ما يكلفه من المهمات الشاقة على كرام الناس الباهظة، إلى ما كان يوجب له ويعظم قدر كلامه، فقال: ولم أقل له رفقاً إذا احتمى غيظاً إلا سكن وحسنت فيئته، وكرمت عطفته، حتى بدا لي مضحكه، وتهللت في لقياي غرته. هذا ومجلسه مشهود، والأقوام حوله قعود، فلا يتداخله نخوة، ولا تأخذه بالإباء والتشدد عزة. وهذا كله تنبيه على تعالى لوعته، وتغالي حرقته وفجعته.
ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا عرف إلا قد تولى فأدبرا
فتى حنظلي ما تزال ركابه ... تجود بمعروف وتنكر منكرا
لحى الله قوماً أسلموك وجردوا ... عناجيج أعطتها يمينك ضمرا
حذف الخبر من قوله لا فتى ولا عرف جميعا، كأنه قال: لا فتى في الدنيا بعد ذهابه، ولا عرف موجود بعد تولي عرفه. وفي وصفه المرثي بالفتى كأنه جمع له الفضائل كلها، كما أن نفيه العرف كأنه نفى به المحامد كلها؛ لأن مهن شرط الفتوة أن يدخل تحتها خصال الخير، كما أن العرف والمعروف يدخل تحته كل ما عرف في الإحسان والصلاح. ولك أن تنون لا فتى وإن كان الأول أشرف في المعنى وأبلغ، فيكون في موضع الرفع بالابتداء، وكذلك لا عرف ترفعه وتنونه، لأنك تلقى حركة الهمزة من إلا وهي كسرة على التنوين. والفصل بين الرفع والنصب أن النصب يفيد الاستغراق، كأنه نفي قليل الجنس وكثيره، إذا كان جواب هل من فتى، ومن عرف؟