نوعٍ من أنواعه جمامٌ لما يليه، وجلاءٌ لما يعيه، ولأن غوامض المقاصد إذا تبرجت لك في روائع المعارض، وأقبل فهمك رائداً لقلبك، يتشمم نوادر الزهر في مغارس الفطن، ويخير فرائد الدرر من قلائد الحكم، فكلما ازداد التقاطاً زادك نشاطاً، كما أن من عرف الفرق بين الإطناب والإيجاز، وبين التطويل والتقصير، وعلم أن الإطناب تفخيمٌ وتكميل، كما أن الإيجاز تخليص وتهذيب، وأن التطويل زيادةٌ على الكفاية، وذهابٌ عن غاية الحاجة، كما أن التقصي قصورٌ عن الحد المرتاد، ووقوفٌ دون مدى المراد، حمد الإطناب والإيجاز لما نالهما من سهام البلاغة، وذم التطويل والتقصير بما فاتهما من أقسام الفصاحة.
واعلم صحبك التوفيق في مباغيك، أن ما جمعت منتشره، وأثرت مكتمنه، وحللت معقوده، وأعدت محذوفه، ونشرت مطويه، ومددت مقصوره من بيوت هذا الاختيار وفصوله، فإني لم أدركه إلا في مدةٍ طويلةٍ لا أذكر طرفيها، وبمجاهداتٍ لشيوخ الصناعة عحجيبة لا أنسى مجاذباتي فيها، حين كان في القول إمكانٌ، وللتحصيل إرصاد، ولسهم النضال تسديد، وفي قوس الرماء منزعٌ وتوتير، وكان الرأي ولوداً، والخاطر عمولاً، والحد حديداً، والحرص عتيداً، مع تمام البراعة، واجتماع المادة والآلة.
فلتا تظنن فيخه ما يظنه الوادع في جهد المكدود، فإن أهون السقي التشريع، ولن تناله إلا بتعبٍ شديد. وتيقن أني أمليت هذا الشرح مستعملاً أرفق الآلات في اختراعه، وأوفق الألفاظ في تصويره وبيانه، ومستحضراً من الشواهد والمثل ما لم يكمل إلا بتعاونه وحضوره، ولو عدلت عن نهج التقريب مشتغلاً بأبواب الإعراب والغريب إلا غيرهما مما يعد في الفضول، لتضاعفت المؤن، وضاعت في غمارها النكت. على أني أرجو أن يكون ضننا في تحصيله وحصره، وسماحتنا بعده بتصنيفه وبذله، يكسبنا من القلوب استحلاءً، ومن النفوس ميلاً واستحباباً، وأنه لا تزال تلك المحبة زائدةً ناميةً، ما دامت فوائده قائمةً باقيةً. وعلى اللع تعالى جده معولنا في أن يوفقنا لمرضاته، وأن يجعل سعينا له وفيه، وحسبنا هو ونعم الوكيل. والحمد لله الواحد القهار، وصلواته على نبينا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين الأخيار.