وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي

أنني في موضع الفاعل لطيب، وليس القصد إلى أنه لم يقل له كذبت قط، وإنما المراد أني لم أجفه بأدون ألفاظ الجفاء. على ذلك قول الله تعالى في الوصاة بالوالدين وتنزيههما عن قبائح القول والفعل: " ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما " فأف الأصل في صيانتهما عن الخنا وفحش القول، والنهر الأصل في ترك إيذائهما بالفعل والزحر. فيقول: سلاني طاعتي له واحتشامي منه مدة حياته، وإعظامي إياه في القول عند مخاطبته، والفعل وقت مجالسته ولدى معاملته. وأشار إلى القول بقوله لم أقل له كذبت وإلى الفعل بقوله ولم أبخل بما ملكت يدي. والمعنى لم أبخل بملك يدي عليه، فحذف عليه كما يحذف المفعول إذا دل عليه الكلام.

وقال أيضاً:

تقول ألا تبكي أخاك رقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبر

فقلت أعبد الله أبكي أم الذي ... له الجدث الأعلى قتيل أبي بكر

يقول: اجتمعت علي المصائب والرزايا فاقتسمتني، فإذا دعيت إلى البكاء على أخي، أرى البكاء يحق له لفاقتي إلى حياته، وتكامل فضله في نفسه، لكني وجدت صبوراً إذ كانت عليه بنيتي، وإذ صار ديدني ودأبي وقوله مكان البكا بيان استحقاق أخيه البكاء عليه. وقد قصر البكاء، وللشاعر أن يقصر الممدود باتفاقٍ من المذهبين. وفي طريقته قول الآخر:

ولو شيت أن أبكي بكاً لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع

وقوله فقلت أعبد الله أبكي، كشف به عن توالي الرزايا، وأن جلده متوزعٌ فيها، فكأنه قال: إلى من أصرف البكا، ومن أخص به أعبد الله أم المدفون في القبر الأعلى قتيل أبي بكر بن كلابٍ. وقوله الأعلى يريد الأشرف، ويجوز أن يريد الأعلى في مكانه وموضعه. والجدث: القبر، وكذلك الجدف، وجمعه الأجداث.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015