أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
قوله أمري يجوز أن يريد المأمور به، ويكون الأصل: أمرتهم بأمري، فحذف الجار ووصل الفعل بنفسه. ويجوز أن يكون مصدر أمرت، وجاء به لتأكيد الفعل. وقوله بمنعرج اللوى تحديدٌ وتوقيتٌ، وبيان أن ذلك كان من همه حتى اختار له الموضع الذي كان أوفق عنده، والوقت الذي كان أعود عليهم فيما أمرهم به. واللوى: مسترق الرمل. ومنعرج: منعطف. وقوله فلم يستبينوا الرشد أي لم يتبينوه في الحال حتى جاء الوقت المقدر له. وذكر الغد يكثر فيما يتراخى من عواقب الأمور إذا أحيل عليه البيان والظهور فيه. والمعنى: في المستأنف من الوقت. وهذا زاد عليه ضحى لأنه من النهار أضوأ، فكأن المعنى: لم يبن لهم ما دعوتهم إليه إلا في الوقت الذي لا لبس فيه ولا اعتراض شك. ومثله قول المتلمس:
عصاني فلم يلق الرشاد وإنما ... يبين عن أمر الغوي عواقبه
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
يقال رشد يرشد رشداً ورشاداً، ورشد يرشد؛ فلك أن تضم الشين من ترشد وأن تفتحها. وقوله هل أنا هو في مذهب النفي وإن كان استفهاماً ولذلك تبعه إلا، كأنه قال: ما أنا إلا من غزية في حالتي الغي والرشاد، فإن عدلوا عن الصواب عدلت معهم، وإن اقتحموه اقتحمت بهم. وغزية هو رهطه. فإن قيل: إنه كرر معنىً واحداً في هذه الأبيات مرتين، لأن قوله إن غوت غويت قد اشتمل عليه كنت منهم وقد أرى غوايتهم وأنني غير مهتد. قلت: في الأول اقتص الحال التي دار عليها معهم، وفي الأمر بقيةٌ، وللنصح توجهٌ، وأنه اجتهد في ردهم إلى ما هو أرد عليهم وأنفع لهم، فلما عصوه في ذلك أمسك عنهم جارياً في الطريق الذي يسلكونه وإن علم الخطأ فيه. وقوله وهل أنا إلا من غزية بيانٌ لما دفعوا إليه بعد تبين الرشاد لهم، وابتلوا به من مقاساة سوء العاقبة لسوء اختيارهم، فقال: وما أنا إلا شريكٌ لهم فيما أثمر لهم جهلهم وغوايتهم كما كنت شريكاً لهم لو رشدوا فيما كان يثمر لهم رشادهم. فهو في الأول ذكر اتباعه لهم بعد النصح ناظراً من وراء رأيه ما يدفعون إليه ويمتحنون به، وفي الثاني ذكر انغماسهم معهم فيما أعقب لهم اختيارهم، وأنه شقي بمثل ما شقوا به في عقبى جهلهم أو بأشد منه، وإذا كان كذلك اختلف الحالتان