تتابع الحلق في النسج. لذلك قيل في الأشهر الحرم: ثلاثةٌ سردٌ، وواحدٌ فردٌ. وقال الخليل: السرد: اسمٌ جامعٌ للدروع وما أشبهها من عمل الحلق، لأنه يسرد فيثقب طرفاً كل حلقةٍ بالمسمار، وفي القرآن: " وقدر في السرد "، أي اجعل المسامير على قدر خروق الحلق، لا يغلظ المسمار فيتخرق، أو يدق فيقلق. ومعنى البيتين: بذلت نصحي لهؤلاء القوم بلساني وقولي فيما صلح فيه التخاطب، وبإشارتي وتعريضي، وهم لي حاضرون يسمعون ويعون، وقلت لهم: إن الأعداء لكم مترصدون، وإليكم قاصدون، وعددهم وعددهم تامة، فوسعوا مجال الظن السيء بهم إذا تمكنوا منكم، أو أيقنوا بقصدهم، على الطريقتين اللتين بينا.
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد
لما علمٌ للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره، فيقول: لم أصروا على ما كانوا عليه، واطرحوا نصحي ومشورتي عليهم، تبعث رأيهم ولم أتفرد عنهم وأنا أرى جهلهم، وأتصور عاقبة لجاجهم، وأني ضالٌ عن الطريق عادلٌ عن الصواب في اتباعي لهم، لكني لم أستصلح لنفسي الخروج منهم، والتباعد عنهم. وقوله كنت منهم من هذه تفيد تبيين الوفاق وترك الخلاف، وأن الشأنين واحدٌ لا تمايز بينهم ولا تباين. وهم يقولون في النفي أيضاً. لست منك، أي انقطع ما بيننا، فلا خلاط ولا اشتراك. على هذا قول الشاعر:
فإني لست منك ولست مني
فأما قولهم: أنت مني فرسخان، قال شيخنا أبو علي الفارسي رحمه الله هذا كلام الذليل مع المستذل، والمعنى: أنت في هدايتي مدى الفرسخين. وإلى غايتهما، وقد خالف هذه الطريقة حصين بن المنذر فقال:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما