نهل الزمان وعل غير مصرد ... من آل عتابٍ وآل الأسود
من كل فياض اليدين إذا غدت ... نكباء تلوي بالكنيف الموصد
النهل: الشرب الأول. والعلل: الشرب الثاني. والتصريد: تقليل الشرب؛ يقال إناءٌ مصردٌ، إذا كان ما يحويه دون الري، ويقال صرد عطاءه إذا نزره. وقصد الشاعر إلى بيان تأثير الزمان في الذين ذكرهم حالاً بعد حالٍ، ووقتاً بعد وقتٍ، وأنه استوفى منهم ما أراد دفعةً بعد أخرى، وثانيةً بعد أولى، غير مقللٍ ولا مطفف.
وقوله من كل فياض اليدين بدلٌ من قوله من آل عتابٍ، وقد أعاد العامل فيه، وهذا يكثر في المجرور. على هذا قول الله تعالى: " قال الملأ الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم " ألا ترى أنه أعاد اللام كما أعاد هذا الشاعر من. وهذا التكرير تأكيدٌ للإبدال، وتنبيهٌ على أن الثاني من الأول. والفياض: الكثير السيلان، وهو بناء المبالغة. والنكباء: ريحٌ تنكبت عن مهاب الرياح الأربع. وإذا كثرت النكباوات واشتد هبوبها شمل القحط: ويقال: إنه لمنكابٌ عن الحق، أي كثير العدول عنه، والأنكب البعير كأنه يمشي في شق، ومعنى تلوي: تذهب به. والكنيف: الحظيرة من الشجر؛ والموصد: الذي جعل له إصادٌ إحكاماً له، والإصاد: عتبة الباب، والجميع الأصد. وفسر قوله عز وجل: " إنها عليهم مؤصدةٌ " أي مطبقةٌ. ويهمز ولا يهمز. وقيل: الوصيد الفناء. والمعنى أن الزمان ألح عليهم، وتناول منهم الأفضل فالأفضل تناولاً لا تقليل فيه ولا تعذير، فذهب منهم بكل رجلٍ سخيٍ واسع المعروف إذا اشتد الزمان وأسنت الناس. وقول الجعدي:
سألتني عن أناسٍ هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل
ليس مما قاله في شيء، وإنما يريد مر عليهم دهرٌ مديد وزمانٌ طويل، فشرب الناس بعدهم وأكلوا ونسوا أولئك. وهذا مثل.
فاليوم أضحوا للمنون وسيقةً ... من رائحٍ عجلٍ وآخر مغتد