وفي الأرض عن ذي الجور منأىً ومذهبٌ ... وكل بلادٍ أوطنت كبلادي
أظهر في الكلام طيب نفسه على السفر، وسلوه عن بلده وموطنه، فقال: في الأرض الواسعة منتزحٌ ومتوجه عن الجائرين، وكل مكانٍ اتخذته وكناً كان كمسقط رأسي، ومقر نشئي، إذ لا قرابة بين الديار وسكانها ولا مشاكلة، وإنما يختار منها ما كان إلى السلامة أقرب، وللعز أجلب، ومن المهانة والذل أبعد.
وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن خلفنا خفير زياد
كان شكوه من الحجاج بن يوسف، وتأذيه بسوء معاملته، فأخذ يستهين به. يقول: إذا خرجت من ملكته، وفارقت أرضى مملكته، تباعدت عن حومة سلطانه، ودار أمره ونهيه، وخلفت ورائي حفير زياد بن أبيه، الذي هو حد عمله، فماذا تراه يقدر عليه مني، أو يستطيع اختياره من إذائي وقصدي. وعسى من أفعال المقاربة، والفعل بعده يصحبه أن في الكلام. وفي القرآن: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم ". إلا أنه في الشعر قد يشبه تكاد، وهو نظيره في أنه من أفعال المقاربة، فينزع منه أن، لأن الفعل بعد كاد يكون بغير أن. ومثله في ذلك قول الآخر:
عسى الله يغني عن تلاد ابن قادر
ويعني بحفير زيادٍ نهراً كان احتفره زياد.
فباست أبي الحجاج واست عجوزه ... عتيد بهمٍ ترتعي بوهاد
قوله باست أبي الحجاج قال أبو زيد: القصد بمثل هذا القول أن يبين أنه يتجاسر على ذكر السوءة منه. والباء من قوله باست متعلقةٌ بمضمرٍ، كأنه لحق باست والديه كل خزيةٍ وعارٍ، ومنقصةٍ وشنار. وقوله عتيد بهمٍ انتصب على الشتم والاختصاص، والعامل فيه فعل مضمرٌ، كأنه قال: أعني وأذكر. وجعله بهذا الاسم أشهر وأعرف منه بالعلم له، والاسم الذي سمى به. وهذا هو الغرض في كل ما ينصب على المدح أو الذم، ولذلك كان أبلغ من الصفات التابعة لموصوفها في المعنى، إذ كانت الصفة تجيء لشرح الاسم وإزالة اللبس عنه، وباب المدح والذم