مالي ثقة بأنهم يتحملون عني الأثقال إذا استحملتهم، وأنهم يعدون الغرامة غنماً إذا أحلت عليهم، فلا أبالي كيف تخرقت، وفي أي وجه من وجوه البر أنفقت، وإن كانت معلومة من لازم حق أؤديه، وعارض مكرمة أوفيه، إلى كل ما يكون التبجح به مشتركاً، واكتساب الفخر والأجر فيه مشتملاً. وقوله فلست أبالي أصله من البلاء النعمة، وقد تقدم القول في شرحه وما حصل بالاستعمال عليه.

أولئك قومي بارك الله فيهم ... على كل ما أعف وأكرما

ثقال الجفان والحلوم رحاهم ... رحى الماء يكتالون كيلاً غذ مذما

جفاة المحز لا يصيبون مفصلاً ... ولا يأكلون اللحم إلا تخدما

أشار بقوله أولئك قومي إلى قضاغة، ثم أخبر عنهم بأنهم كثروا وطابوا ونموا بما جعل الله من البركة فيهم، فازدادوا. وقوله على كل حال تعلق بقوله بارك الله فيهم، وموضعه من الإعرابنصب على الحال، أي بارك الله فيهم متحولين في إبدال الدهر وتصاريفه من عسر ويسر، وسعة وضيق، وقلة وكثرة، وانحطاط وارتفاع. ثم قال مستأنفاً: ما أعفهم وأكرمهم، أي تمت عفتهم، وكملت أكرومتهم في حالتي الإعسار والإيسار، والإضافة والإيساع، والإقلال والإكثار. وقوله ثقال الجفان أي هم مطاعيم في الخصب والجذب، فجفانهم ثقيلة، وأفنيتهم بالواردوالطراق مأهولة معمورة، وحلومهم ثابتة قائمة، لا يستخفها جزع، ولا يطغبها فرح؛ وترى رحاهم لكثرة غاشيتهم وحشم دورهم، رحى الماء، إذ أنى الاكتفاء بيسير الزاد مع العدد الجم، والخير الدثر، والنعم الغمر، وإذ كان سائر الأرحام لا يستغني بها، ولا يفي بالمطلوب منه دورانها؛ ثم إذا كالوا اكتالوا واسعاً لااستقصاء فيه ولا مضايقة، فهو يجري مجرى ما يهال هيلاً، أو يؤخذ جزافاً لا كيلاً. والغذم: الأكل بسرعة، ومنه الغذمذم، وإن حضروا مقسم الجزر وتكرموا بتولي قسمها، وجدتهم يوسعون الحز، ويخطئون المفصل، إذ لم يكن فعل ذلك من عادتهم وطبائعم، لكونهم ملوكاً، ولأنهم متى تأخر الخدم عنهم لم يحسنوا التصرف في شيء من وجوه المهن، ولا دروا كيف تسلخ الجزر وتقتسم الأبداء، وإذا أكلوا اللحم على موائدهم لم تناوله إلا قطعاً بالسكاكين، لا نهشاً بالأسنان، إقامة للمروءات وذهاباً عن شنيع العادات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015