لكن أيضاً يقال من باب الاعتدال: من قام فيه موجب الاجتهاد الشرعي، وانتظمت الحال عنده، فلا يلزمه أن يبني بالضرورة على أحد هذه المذاهب.
بل إذا اجتمع له في اجتهاده أنه بنى على أصول الأئمة المتقدمين المعتبرة، فلم يخرج بوجه من الشذوذ، فإن هذا مما يقر؛ لأن باب الاجتهاد لم يغلق في الإسلام، ولا يجوز لأحد أن يقول في يوم من الأيام: إن المسلمين اليوم لا بد أن يكونوا مقلدين وأن الاجتهاد انتهى؛ بل متى ما وجد المجتهد وتوفرت فيه آلة الاجتهاد فإنه لا بد أن يجتهد، ويجب عليه أن يجتهد إذا كان من أهل الاجتهاد، بمعنى: يجب عليه أن يجتهد في المسائل التي لم يسبق لأحد فيها قول، وهذه القضية اليوم قائمة في تاريخ المسلمين فيما يسمى: بالنوازل.
فالنوازل لا بد من مجتهد فيها، وقد يرد المجتهد هذه النوازل إلى الأصول الشرعية والنصوص، لكن إن لم يكن على رتبة عالية في الاجتهاد فإنه يرد هذه المسائل إلى فروع فقهية سابقة، فيحاول أن يخرج هذه المسألة النادرة على فرع مذهبي سابق، وهذه في نظري -مع أنها هي المتداولة اليوم- لا تبشر بخير في وضع المسلمين، فإنه قد تأتي نازلة في مسألة فتجد أن بعض علماء العصر يضيقون عنها، ثم يأتي شخص قد أتعب نفسه في البحث فيقول: يوجد عند الحنفية في حاشية كذا، أو بعض الحواشي المتأخرة في كتب الحنيفة أو المالكية فرع يمكن أن ترد المسألة لذلك الفرع.
لكن: ما هي المواصفات التي كان ذاك الفقيه الحنفي الذي جاء في القرن التاسع أو الثامن بحيث أنك تجعل هذه النازلة تحكم هذا الحكم؟ الأولى هنا أن هذه النازلة ترد إلى النصوص، وأن يتوافر في المسلمين من عنده ملكة الاجتهاد وحسن المنهج والفقه لقواعد السلف الأول في الاستدلال وما إلى ذلك، وهذا شأن إنما يشار به إلى أن إغلاق باب الاجتهاد ليس منهجاً معتدلاً، ولا من الحكمة.
لكن الذي يجب أن يقال: إن الاجتهاد لا بد أن يكون منضبطاً بحسب الأصول.