فالمقصود: أن من انتظم لإمام من كبار المجتهدين في أصول فقهه وطريقته في الاستدلال، فهذا ترتيب علمي، ولا يدخل في الحسابات الدينية الخاصة، وأما من اتخذ التمذهب الفقهي بمعنى الاطراد في التسليم لسائر الفروع الفقهية المقولة في المذهب، واعتبار العمل والفتوى بها، وإغلاق النفس عن البحث في الدليل، فهذا هو التقليد المذموم، فإذا ذكر له دليل في مسألة من المسائل على خلاف قول المذهب ولم يستطع الجواب عنه، لكنه يبقى مع ذلك مصراً على هذا المذهب، فهذا وجه من التقليد المذموم الذي لا ينبغي للعالم أن يكون عليه.
لكن التمذهب من حيث الواقع التاريخي وجد من هو على الوجه الأول، وهم المحققون من المتمذهبين، ووجد من هو على الوجه الثاني، فهذا موجود وهذا موجود، وبهذا يعلم أن إنكار التمذهب مطلقاً ليس لازماً شرعياً، ليس هو اختصاصاً عقدياً، ولو كان اختصاصا ًعقدياً لكان الاختصاص باسم فقيه بدعة، لكنه اختصاص فيما يسوغ فيه التعدد، وكقاعدة شرعية وعقلية: إذا ساغ التعدد والاجتهاد شرعاً واختلف الرأي فلا يسوغ -بل هذا هو الممكن- ولا يمكن شرعاً ولا عقلاً إلا اختيار رأي واحد.
ومثال ذلك: أن مالكاً يرى أن عمل أهل المدينة حجة، والجمهور لا يرونه حجة، فهل يمكن القول بجمع الجميع، كما جمعناهم في قولهم: الإيمان قول وعمل؟ الجواب: لا؛ لأن قولهم: الإيمان قول وعمل هم مجتمعون عليه، لكن في هذه التراتيب الفقهية هم مختلفون، فانتسابك لـ مالك كترتيب في أصول الاستدلال أو لـ أبي حنيفة أو للشافعي أو لـ أحمد انتساب لا إشكال فيه من جهة الشرع ومن جهة الحكمة العقلية العامة.
لكن إذا زاد الأمر عن هذا الترتيب العلمي إلى درجة التسليم المطلق لسائر فروع المذهب وأصحابه الذين كتبوه، والبعد عن النظر في الدليل واتباع السنة، فلا شك أن هذا من التقليد المذموم، وهو تعصب لا يجوز إقراره.