إذاً: ذم التمذهب بإطلاق ليس حكيماً، وإلزام الناس به ليس حكيماً، فإذا وجد من لا يفكر بالتمذهب ويقول: أنا الآن لا يلزمني أن أتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، بل أتبع ما يفتي به الإمام أو العالم فلان من فقهاء الأمصار الموجودين، كما نقلد الفقه الذي قاله وكتبه الشيخ الألباني رحمه الله، فيقال: هذا وجه من الفقه ووجه من العلم، ووجه من التقليد السائغ، ومن يقلد بعض العلماء -كالشيخ ابن باز مثلاً- في سابق من الأمر، أو يقلد عالماً من المالكية أو الشافعية أو الحنفية في بلده، ومن يروم الوصل إلى تقليد أحد المذاهب الأربعة كما هو عليه كثير من عوام المسلمين؛ فهذا يقر، مع تنبيه هؤلاء إلى التقليد السائغ والتقليد غير السائغ، وهو أن التقليد -بغض النظر عن الاسم المقلد- إذا تعدى إلى ترك الدليل فإنه لا يكون سائغاً.
لكن من الذي يستطيع أن يقول: إن هذا التقليد تعدى إلى ترك الدليل أو لم يتعد؟
إذا خالف قولك هؤلاء العامة من أهل هذا المصر، كما يقول البعض أحياناً: في بلدنا يضعون أيديهم على الصدر بعد الرفع من الركوع، فيتمذهبون بالمذاهب التقليدية الفقهية، ولا يطبقون السنة في إسبال اليدين، فإن هذه مسألة محتملة، وهو هنا قد جعل التقليد مقابل الدليل، وهذا ليس حكيماً؛ التقليد لا يقابله الدليل، بل التقليد يقابل الاجتهاد، وإلا فالأصل أن المقلد يقلد عالماً بنى على دليل.
فمثل هذا الأمر الذي يراه بعض الحريصين على السنة، مع أنه حرص فاضل لكن ينبغي أن يكون معتدلاً؛ لأنه من كثر علمه بفروع الفقهاء وأقوالهم يحمسه ذلك في الخلاف الفقهي، فصار يرجح لأن هذا هو الظاهر وهذا هو الأقرب، وهذا ليس بحكيم، ولا سيما إذا كان المذهب هو مذهب الجمهور من الفقهاء، فينبغي لطالب العلم أن يترفق في مخالفته، ويجب عليه أن يقتدي بالدليل في سائر موارده، لكن يعرف للجمهور المتقدمين قدرهم.
أحياناً نسمع من بعض طلاب العلم عن قول من الأقوال: إن هذا القول لا دليل عليه، مثلاً: هل غسل الجمعة واجب أم ليس بواجب؟ فيقول: غسل الجمعة واجب، وهذا هو السنة، وهو الصريح في الصحيحين من حيث أبي سعيد: (غسل الجمعة واجب على محتلم)، فإذا قيل له: والقول بأن غسل الجمعة ليس بواجب، قال: هذا القول لا دليل عليه، وإذا رجعت وجدت أن القول بأن غسل الجمعة ليس واجباً هو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور من المتقدمين، بل حكي الإجماع عليه، وليس المراد هنا أن نقول هو الراجح، كلا! فإن هذه مسألة سهلة ليس المراد أن نقول: إنه راجح ولا أن نقول إنه مرجوح، لكن المقصود: هو أن لا يتربى الإنسان على منهج (لا دليل عليه) مع أنه قول الجماهير، وذلك لأجل ظاهر ظهر له من بعض النصوص، مع أن الظاهر أنه جواب، والأجوبة بينة، ومن يستقرأ النصوص لا يأخذ من حديث أبي سعيد الوجوب الذي هو الإلزام؛ لأن النبي نطق بكلمة الوجوب في مسائل قد أجمع سائر الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين على أنها ليست فرض عين، كقوله في الصحيح: (خمس تجب للمسلم على أخيه) مع وجود الإجماع على أن هذه ليست من فروض الأعيان.
أيضاً لو أكملنا هذا الحديث كما في رواية الصحيح عند مسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه) فقوله: (وسواك) معطوف، والتقدير اللغوي هنا والسواك واجب، البعض قد يقول: هذه دلالة الاقتران، وهي ضعيفة، مع أن هذا لا علاقة له بدلالة الاقتران لا من قريب ولا من بعيد.
فأحياناً البعض -إن صحت العبارة- يختطف بعض الكلمات الأصولية أو القواعد الأصولية اختطافاً غير رشيد، فيستعملها بطريقة ليست منتظمة ولا صحيحة، وتقدير الكلام عند العرب هنا بين: (وسواك) أي: وسواك واجب، لأن الاسم هنا قطع عن تكملة جملته وخبره.
فالشاهد: لم يقل أحد بأن السواك واجب، والقضية لست قضية مماحكة، فتقول: لا، نقل عن إسحاق بن إبراهيم أنه يرى الوجوب، فليست القضية قضية معاداة، بل إنها قضية وصول إلى حكم شرعي معتدل.
فالذي أقصده: أن ترك التمذهب يجب أن يكون معتدلاً، وليس التمذهب ينزع من الإنسان كونه سنياً أو سلفياً، بل من تمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة واقتصد في تمذهبه وعني بالدليل، فهذا إذا كانت أصوله على السنة والجماعة فهو من أهل السنة والجماعة، ومن ترك التمذهب لتقليد إمام، أو لكونه من أهل الاجتهاد، فهذا أيضاً شأن واسع إذا انتظم أمره.
هذا ما يتعلق بمسألة التمذهب الفقهي، وعليه نجد أن التقليد والتعصب بدأ بالعقائد، ثم في السلوك، ثم في باب الفقه، وباب الفقه هو أوسعها وأرفقها، فأصله على الجواز، وجملته الجامعة ما قاله ابن تيمية رحمه الله: إن الجمهور من الأئمة يذهبون إلى أن التقليد جائز، والاجتهاد جائز، فمن كان أهلاً للاجتهاد صار حكمه فيه إليه، ومن كان ليس كذلك صار حكمه إلى وجه من التقليد.
والتقليد أوسع من التمذهب فقد يكون التقليد لأحد المذاهب الأربعة، وقد يكون التقليد لعالم متأخر في تاريخ المسلمين اجتمع له فقه واسع وإمامة في الدين، كبعض العلماء الذين سبقت الإشارة إليهم.
هذا جملة القول في مسألة التعصب الذي هو موجب خروج جمهور العامة من أهل السلوك والتصوف عن الوسطية الشرعية إلى أوجه مبتدعة، أو على أقل الأحوال إلى أوجه مخالفة للسنة.