الرابع: من صور التعصب هنا ما يمكن أن نسميه: الاختصاص النسبي، وهو الطريقة التي توصل العابد إلى مقام المعرفة والحقيقة، والتصوف كما هو معلومأصله يقوم على النفس، وهذا الاختصاص النفسي، أعني: اختصاص هذه المدرسة أو هذا التجمع في السلوك باختصا ... ص نفسي تحصل به الأحوال والمقامات الشرعية، وهذا الاختصاص شائع اليوم، أعني بهذا الاختصاص الطريقة التي توصل العابد إلى مقام المعرفة والحقيقة، وهذا -مع الأسف- يستعمل فيه كثير من الأوجه التي هي من البدع والمحدثات في الإسلام.
فتجد أن ثمة طريقة معينة للذكر لها رسم معين في لفظها، ولها رسم معين في وقتها، ولها -أحياناً- رسم معين في كيفية وطريقة الجلوس لها، كترديد -مثلاً- (الله)، بدون إضافة أو وقوع في جملة مركبة، (الله ..
الله ..
الله)، أو (هو)، وهذه النظم في الطرق في تحصيل السلوك، أو الاختصاص النفسي بهذه، أو تعويد النفس أنها لا تتحرك بإيمانها الصحيح أو معرفتها الصادقة إلا تحت هذه الطرق المحدثة -هذا هو من أشكل ما يعيشه التعصب السلوكي اليوم، بل من قرون كثيرة.
وليس المقصود هنا أن ندخل في الحكم بمثل هذا الأمثلة؛ فإن هذا باب آخر، لكن من المعلوم أن الذكر المشروع هو: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو ما إلى ذلك من الجمل التي هي كلام عند العرب، كما قال ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم ... واسم وفعل ثم حرف الكلم
أما هذا الاسم المقطوع والمجرد فإنه لا يكون معرفاً بحكم وذكر شرعي صحيح، وإن كان البعض قد يستدل أحياناً بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)، فليس مقصوده عليه الصلاة والسلام هنا أن الناس يتعبدون بهذه الكلمة، ولو كانت هذه الكلمة تذكر في الذكر وحدها وهي الاسم العظيم لله سبحانه وتعالى لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره وفي تسبيحه لربه سبحانه وتعالى، إنما المقصود هنا أنهم لا يعرفون الله؛ ولذلك جاء في بعض الروايات: (حتى لا يقال: لا إله إلا الله)، وإن كانت هذه الرواية ليست في الصحيح.
المقصود من هذا: أن ما يتعلق بالاختصاص النفسي بطرق، وأن الإيمان يحصل بهذا الاختصاص، ويرون أن غيره من أهل الإسلام الذين معهم في هذا المصر لا يعرفون هذه الخاصية النفسية الصحيحة الموصلة لليقين، والولاية والمعرفة وما إلى ذلك، فهذه الطرق من الاختصاص النفسي في التعبد بدعة في الإسلام.
بل ليس هناك اختصاص في الإسلام لأحد، والعبادة الظاهرة والباطنة مفتوحة بهدي الإسلام وشريعته لكل المسلمين، فكل مسلم يمكنه ويسوغ له أن يعبد الله سبحانه وتعالى؛ بكل ما هو مشروع في عبادة الله، إما بصلاة، أو بذكر، أو بصيام، أو بحج، أو بقراءة قرآن، أو ما إلى ذلك.
أما أن الوصول إلى الحقيقة والولاية يكون بطريقة معينة، فهذا ليس بصحيح.
فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يخص طرقاً معينة من العبادة الشرعية وجعلها موصلة للولاية، لا منهجاً خاصاً في الذكر، ولا غير ذلك، بل كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].
والإيمان عند أهل السنة والجماعة: اسم جامع لما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويجمع بقول السلف: الإيمان قول وعمل، أو قول وعمل واعتقاد، فيقال: الإيمان اسم جامع لما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والتقوى يقاربه كما هو معروف، وإن كانت أوسع متعلقاً بباب الترك.
وعليه فمبدأ الاختصاص العبادي والسلوكي ليس له أصل في الإسلام، والاختصاص المذموم هو الاختصاص الذي يكون تحت انتظام لطائفة أو مدرسة معينة في السلوك، أما أن بعض المسلمين تكون نفسه قابلة للصيام أكثر من قبولها وقوتها على الجهاد والقتال مثلاً، فإن هذا شأن بدني، وشأن موجود زمن الصحابة رضي الله عنهم، فبعض النفوس تقوى على الصيام، وبعضها لا تقوى، وبعض النفوس تقوى على قيام الليل، وبعضها لا تقوى، وبعض النفوس تقوى على كثير من الذكر، وبعضها تقوى على غير ذلك، فهذا التفاضل والاختلاف والتنوع ليس هو المقصود هنا؛ فإن التنوع شيء والاختصاص شيء آخر.
فالتنوع يعني المحافظة على أصول الإسلام؛ كالصلوات الخمس وأركانها، مع اختيار في المشروعات والمستحبات هذا هو التنوع الذي كان يعيشه الصحابة، أما الذي نقوله هنا -وهو ليس مشروعاً- فهو الاختصاص بطرق معينة، كأن يكون هناك مجموعة أشياء لا بد للإنسان أن يطبقها، مثل: ذكر في كل جمعة بطريقة معينة، حضرة بطريقة معينة، جلسة بطريقة معينة، إحياء ليلة من السنة بطريقة معينة، هذه التخصيصات لتحصيل الوصول النفسي والولاية ليس عليها آثار شرعية بينة، وهذا واضح في قراءة هدي الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى في هدي الشيوخ العارفين من بعد الصحابة، كـ الفضيل بن عياض، أو إبراهيم بن أدهم، أو شقيق البلخي، أو حتى مثل الجنيد بن محمد من مقتصدة الصوفية، لا نجد أنهم يلتفتون إلى مثل هذه الطرق.
وهذا إذا كان الاختصاص فيه قدر من المقاربة، فما بالك إذا كان الاختصاص بوجه من الغلو الذي يؤدي إلى تعطيل كثير من الشرائع، كما هو عليه الغالية من الباطنية، فإن هذا شأنه أنكر وأبعد.