التدرج الصوفي والرتب الصوفية

الثالث: التدرج الصوفي، أو الرتب الصوفية، وهي ترقي المريد من كونه في درجة إلى درجة أخرى، فيمر بدرجة الفتوى -مثلاً- ثم ينتقل عنها إلى درجة أخرى، حتى يصل به الأمر إلى درجة العارف، ثم يكون قدوة ..

وهلم جرا.

وهذه الرتب لا أصل لها في الإسلام، ولا شك أن الإيمان يتفاضل، وأن المؤمنين يتفاضلون، لكن تفاضل الإيمان لم يوكل في الإسلام إلى رجل بعينه هو الذي يرتب مراتب الناس في الإيمان، حتى الرسول عليه الصلاة والسلام مع ما كان ينزل عليه من الوحي لم يكن يشتغل أمام أصحابه بترتيب الدرجات على اطراد، فقد ميز أبا بكر وعمر، وذكر العشرة المبشرين بظهور أحوالهم في الإسلام، أما أنه كان يتتبع عليه الصلاة والسلام ذلك فلا.

ولذلك من فقه عمر -كما في البخاري وغيره- أنه قال: إنا كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله ينزل عليه الوحي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فمن أظهر لنا خيراً قبلناه، ومن أظهر لنا خلاف ذلك أخذناه به.

أي: أصبحت الأمور تعتبر بالظواهر، وليس المقصود بالظواهر الظواهر البسيطة، بل ظواهر الفقه، فإن الشخص قد يظهر الصدق من حاله، وتقوم القرائن على الصادق وعلى غير الصادق.

لكن نظرية ترتيب الداخلين في هذا الانتظام إلى درجات في التقوى، وتنقل الإمام تنتقل هذه من هذه الدرجة الشرعية الدينية وأصبح في هذا اليوم أو في هذا التوقيت أو في هذه السنة في هذه الدرجة، ثم انتقل إلى تلك الدرجة التي هي أرقى من هذه.

هذا لا معنى له في العقل، فضلاً عن الشرع، فقد يكون في حاله الأولى التي كانت أنزل في النظم الصوفي أكرم عند الله وأتقى.

فالولاية والتقوى في شريعة الله سبحانه تعتبر بما قاله سبحانه في كتابه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].

وإذا تأملت القرآن وجدت أن الله سبحانه إذا ذكر الأسماء المطلقة في الغالب، وهي أسماء الكمال الشرعية؛ تجد أن لها تعريفاً يتبعها في سياق الآيات، وهذا حتى لا تترك إلى فهم خاص، كقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) أي: أصبح عندهم الإيمان والديانة في قلوبهم وفي أعمالهم، واتقوا ربهم قدر ما يستطيعون، هؤلاء هم الأولياء، وليست الولاية درجة تمنح إما من شخص معين له مقام أكبر، أو تمنح بتوافق العامة على أن هذا هو الولي بعد فلان، أو هو الخليفة بعد فلان، فإن هذا قد يقبل في الأوجه السياسية -مثلاً- أو غيرها، لكن في مثل هذه الطرق لا يمكن أن تكون الأمور شورى، أي: يكون فلان هو الولي من بعد فلان، أو أن فلاناً يوصي بالولاية من بعده لفلان، فالولاية لم تكن يوماً من الأيام في فقه الإسلام الأول مسألة وصايا: أن فلاناً أوصى أن الولي من بعده أو أن العارف من بعده أو القائم بهذا الأمر من بعده يكون فلان بن فلان، أو تدخل أحياناً مسألة الوراثات الشخصية الخاصة.

وينبغي على الداعية والعالم أن لا يصطدم مع العوام في تصحيح هذه المخالفات، فإننا نتكلم في هذا أمام واقع اليوم من أقاليم شتى من المسلمين نتكلم في هذا أمام واقع اليوم من أقاليم شتى من المسلمين، والاصطدام معهم ليس من الحكمة، لكن ليكون هناك منهج وسطي معتدل حكيم عاقل في التصحيح، وإلا فلست أرى أن من الحكمة أن ينفر الإنسان الناس، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)، ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند هذه الكلمة بقوله: "إن مقصود علي أن بعض العامة ينبغي أن لا يحدث بما هو من السنة أحياناً في بعض المقامات؛ لأنه يقول: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ولو كان مراد علي أنهم لا يحدثون بغير السنة لما قال: أتريدون أن يكذب الله ورسوله، فهذا فقه ينبغي أن يوصل إليه.

لكن التصحيح أيضاً مطلب، فليس هناك معنى لأن يبقى المسلمون على إلف وتقليد وتعصب ليس مشروعاً لهم في كتاب ربهم أو في سنة نبيهم، ولكن نوصي هنا بحسن التأتي وحسن الفقه، والرفق في تصحيح بعض هذه الأوضاع الموجودة عند المسلمين اليوم.

وقد يكون عند البعض طموح في أن يتجرد الناس عن كل تبعية، وهذا ليس منهجاً ممكن التطبيق في الحال، بل قد يكون في هذا المنهج قدر واسع من المثالية.

لكن ما يتعلق بباب العقائد هذا لا يجوز التساهل فيه؛ بل ينبه الخاصة والعامة أنه لا يجوز لأحد أن يختص بعقيدة عن عقيدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو يتميز باسم خاص عن هدي السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم.

أما باب السلوك فهو باب أوسع بكثير من الباب الأول؛ لأن هناك درجات ومدارس وطبقات من التصوف هي في جمهور أصولها على السنة والجماعة، لكن اختلفت بعض طرائقهم.

فينبغي في مثل هؤلاء أن يخفف عندهم جانب التعصب في هذه الرسومات والامتيازات والرتب وما إلى ذلك، وليس بالضرورة أن يطالبوا بالانطلاق على وضعهم الخاص، فإن هذه المطالبة -وإن كان أحياناً قد يكون لها وجه ما- مطالبة مثالية، تقود إلى تنفير كثير من هؤلاء عن السنة واتباعها إلى مزيد من التعصب والجهل في مثل هذه المقامات.

فهذا الباب باب من الحكمة والفقه، لا تنقص فيه الحقيقة الشرعية، لكن تعرف رتب وتفاضل الحقائق الشرعية، وأن بعضها يسع فيه الاجتهاد، وبعضها قد يقع الغلط في مثله، كما يقول أبو عبيد في قول مرجئة الفقهاء: "وبعضه غلط لا يقع المسلم في مثله؛ بل هو وجه من الضلالة البينة".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015