البعد عن علم الشريعة المفصل

الخامس: البعد عن علم الشريعة المفصل، فمن آثار التعصب عند العامة: أنهم لما سلموا للخاصة، وصاروا يجعلون التعبد قدراً من السر، أي: أنه نظرية تلقي مجردة، فكأن أسرار هذا التعبد هي عند هذا العارف، فيكون له من الأسرار والحقائق ما لا يصل إليه العامة، ومن هنا تبدأ نظرية الرتب والترقي، حيث يكون المترقي يبحث عن الوصول إلى درجة اليقين والمعرفة، فتحول السلوك في الإسلام داخل هذه المدارس إلى نوع من السر، فإنه ليس أمام المقتدي أو المريد إلا أن يتحرك بما يرسم له، وهذا لم يكن منهجاً شرعياً في أول الإسلام.

بل في الإسلام أن العبادة فرع عن العلم؛ فهذا البخاري رحمه الله -وهو من فقهاء المحدثين- يقول في صحيحه: "باب العلم قبل القول والعمل"، فالعبادة لم تكن في الإسلام نوعاً من السر الخاص، ولم يكن له عليه الصلاة والسلام شيء من العبادة في السر الخاص، على معنى أنها عبادة ليست مكشوفة للأمة.

وهذا بخلاف القيام بوجه من العبادة بعيداً عن أعين الناس؛ فإن هذا باب معروف، وباب مشروع، وفي كتاب الله تعالى في وصف المؤمنين: أن في صفاتهم ما يتضمن إظهار الخير والمعروف، وفي صفاتهم ما يتضمن القيام به على وجه من البعد عن أعين الناس، ومن المعلوم أنه عرض لرجال -ليسوا من كبار الصحابة- في زمن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في حديث أنس وغيره- أن للرسول صلى الله عليه وسلم عبادة خاصة، فجاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم -أي: بيوت أزواجه- فسألوا عن عمله في السر، فما رأوا فيه كبيراً عن عمله الظاهر، أي: لم يكتشف هؤلاء السائلون أنه صلى الله عليه وسلم كان عنده أسرار خاصة في اتصاله بربه، بل كان له أحوال من قيام الليل وذكر الله يعلمها أصحابه، وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث بها الصحابة، فلم تكن مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بأشياء، مثل الوصال، ونهى أصحابه عنه، وهذه مسائل معروفة في الشريعة، أما أن العبادة لها أنظمة في سر النفس هي التي تترقى بها، فهذا ليس كذلك، والتوفيق في الإسلام هو اتصال بعبادة الله وحده كما شرع الله ورسوله.

فمسألة السر هذه مسألة محدثة، سواء سميت سراً، أو طبقت بطريقة معينة تحت هذا المفهوم، وهذا الانتظام في أن الولاية درجة من اليقين يترقى فيها بالسر، هذا هو الذي أبعد العامة عن العلم المشروع؛ ولذلك كثر في الصوفية -حتى من الخاصة منهم- الجهل بمعرفة الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، حتى إنك تجد بعض الرموز الكبار من العارفين والسالكين في الإسلام كـ أبي حامد الغزالي، والذي له من الفضائل والاختصاص والتأله والديانة والنسك فضلاً عن العلم في الفقه والأصول ونحو ذلك، تجده يقول عن نفسه: "إن بضاعته في الحديث مزجاة"، ولذلك ذكر في إحياء علوم الدين أحاديث صحيحة، ودخل عليه شيء من الأحاديث المتروكة بل والموضوعة.

فهذا التعصب عند العوام قاد إلى البعد عن العلم الشرعي، ولا يتبادر إلى الذهن إذا قلنا: العلم الشرعي، أن المقصود أنهم لم يتعلموا تفصيل الأحكام الموجودة في كتب الفقهاء والمذاهب الفقهية وما إلى ذلك، فإن هذا نوع من العلم الشرعي، لكن المقصود بالعلم الشرعي هنا: هو العلم الشرعي في السلوك، كمعرفة صور الذكر المشروعة الثابتة في البخاري ومسلم وكتب السنة المعتبرة، وكمعرفة صور العبادة المشروعة، فالعناية بهذه العلميات التي هي صور العمل المشروع فيه فقر كثير في هذا الباب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015