فإن قال قائل: أليس أهل السنة والجماعة يقولون عن أحمد بن حنبل: إنه إمام أهل السنة والجماعة؟
فالجواب: بلى، يقال عن أحمد وعن مالك وعن أبي حنيفة وعن الشافعي وعن جملة من الأئمة، وهذا من اللقب الشائع المستفيض الذي كل من استفاض فضله وعلمه ودينه من الأئمة سموه إماماً لأهل السنة والجماعة، ولا يختص بالسابقين، بل يسمى أيضاً من هو من اللاحقين بهذا الاسم، لكن ما معنى الإمامة هنا؟
معناه: أنه جامع لهذا العلم، فقيه فيه، قائم بالعمل، والدعوة إليه، وليس معناه أنه ابتدأ تاريخ مذهب أهل السنة والجماعة من أحمد بن حنبل أو مالك أو الشافعي أو الثوري أو غيره؛ ولذلك ابن تيمية رحمه الله في مناظرته في الواسطية لما كان يقرر هذا المعنى، وأن العقائد ليس صحيحاً أنها تختصر بتاريخ رجل عرض في تاريخ المسلمين في المائة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو غيرها، كان بعض مناظريه من متكلمة الصفاتية يقولون ذلك للسلطان، فقال له السلطان الذي كانوا يتناظرون بين يديه: لو سميت هذا الذي كتبته في الواسطية: مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومذهب الحنابلة، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا المذهب موجود قبل أن يولد الإمام أحمد.
وهذه هي الحقيقة العلمية هنا، أن الإمام أحمد أو غيره إذا سمي بإمام أهل السنة ليس معناه أن المذهب ترسم أو ابتدأ أو انتظم من جهته، والله سبحانه وتعالى قد فضل النبيين بعضهم على بعض، وكذلك أتباع الأنبياء بعضهم أفضل من بعض، فيكون بعض الأئمة أقوم بالسنة وأهدى فيها وأكثر فقهاً فيها وما إلى ذلك، فيميز بمثل هذا اللقب.
إذاً: لا يوجد عند أهل السنة والجماعة تعصب لشخص معين في العقائد؛ لأن التعصب لمعين يعني الانفكاك عن غيره، ولا يوجد عند أهل السنة والجماعة رجل معين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشرع التعصب له بعينه في العقائد، على معنى أن هذا الأمر يختص به وينفك عن غيره، وهذا بخلاف غيره من المذاهب، فإن مدرسة الماتريدية -مثلاً- مع انتساب أصحابها للسنة والجماعة، إلا أن نظارهم وعلماءهم فضلاً عن العامة منهم ينتهي سندهم إلى أبي منصور الماتريدي الحنفي، وهذا الانتهاء هو المشكل؛ لأنه إذا كان ما نظمه الماتريدي هو ما عليه أئمة السنة القدماء من أئمة الحنفية وغيرهم، وليس له اختصاص فيه، فإنه لا يوجد معنى للانتساب المختص به في باب العقائد.
وقد يقول قائل: إنه استعمل في بعض البيئات مصطلح الوهابية انتساباً للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهذا الشيخ إنما تكلم كاختصاص في باب العقائد، وفي باب توحيد الله سبحانه وتعالى.
فيقال: إن القاعدة مطردة؛ فإن الشيخ رحمه الله -أعني الإمام محمد بن عبد الوهاب - لم يأت إلى الدعوة باسم طائفي ينتسب هو إليه أو ينتسب إليه أبو أو جده، بل حقيقة ما أتى به الشيخ رحمه الله أنه منهج في تجديد الدين يقوم على الكتاب والسنة وما مضى به الإجماع عند الأئمة، وعند التأمل فيما أتى به الشيخ رحمه الله يظهر أنه في باب توحيد الله، وهو باب بين في الشريعة، لكن لما كثرت البدع والخرافات في تاريخ المسلمين المتأخر صار عند كثير من العامة من المشكل والمستغرب.
فما أتى به الشيخ ليس اسماً طائفياً، وكذلك أتباعه من بعده لا ينتحلون هذا الاسم؛ فإننا لا نجد أحداً من علماء الدعوة ومن بعدهم ومن انتظم في فقه هذه الدعوة يسمي نفسه وهابياًً أو ينتسب هذه النسبة، بل الأصل أن الوهابية اسم سماهم به إما أعداؤهم أو من يخالفهم، وقد لا يصل إلى درجة العداوة المطلقة، فهو ليس اسماً متعبراً به لا عند الشيخ ولا عند أتباعه، بل هم يعدون أنفسهم جزءاً من أهل السنة والجماعة الذين يوجدون في سائر بقاع المسلمين، لكن الإمام رحمه الله عني بتقرير توحيد العبادة وتخليص كثير من العامة من مظاهر الشرك والخرافة والبدع، وهذا شأن بين في كتبه، وليس له اختصاص بكلمة واحدة في التوحيد عن أئمة سبقوه كالأئمة الأربعة ومن قاربهم، فضلاً عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وأما في باب الفقه فمن المعلوم أنه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله من حيث الأصول، مع أن الشيخ رحمه الله ليس من المتعصبين ولا من الغلاة في التقليد، بل نقل عنه كلمة تبين أنه رحمه الله ليس من المتعصبة في باب الفقه، هذه الكلمة قالها تعليقاً على كتابي: الإقناع والمنتهى، فإن ما انتهى إليه صاحب المنتهى وصاحب الإقناع من النتائج يجعله المتأخرون من الحنابلة هو المذهب.
ومع ذلك نقل بعض علماء الدعوة عن الشيخ رحمه الله كلمة قال فيها: "أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد نفسه".