وهنا مسألة: هل التعصب العقدي له وجه جائز من حيث أن مدرسة السلف مدرسة يتعصب لها؟
الجواب: هذا الكلام فيه قدر من الإجمال؛ فإن الحقيقة الشرعية الموجودة في القرآن هي أن ما يتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة -أو ما سماه الشارع بما روي عنه في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة- لا يختص بأحد بعينه، وهذا هو جوهر الفرق في باب العقائد بين المدارس التي خالفت أهل السنة والجماعة، وبين مذهب أهل السنة والجماعة.
وقد يقول قائل: جوهر الفرق أنهم لا يقتدون بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه المدارس حتى التي انتسب أصحابها للسنة والجماعة ينتهي سندها العلمي إلى ما قد يسمى بالمؤسس أو المؤسسين، وليس المهم أن يتفق من هو المؤسس، فمثلاً: الاعتزال، من هو مؤسسه؟ هل هو واصل بن عطاء، أم عمرو بن عبيد أم رجل آخر؟ هذا لا يهم، لكن المهم أن هذه المدارس انطلقت بأسماء، فالخوارج انطلقوا بأسماء، فإنه لا يوجد ذكرهم في خلافة عمر بن الخطاب، فضلاً عن خلافة أبي بكر، فضلاً عن زمن النبوة، ولا توجد نظرية الخوارج وطائفة الخوارج ومذهب الخوارج، وإن وجدت المقدمة من ذلك الرجل الذي قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه سيخرج من بضع هذا قوم.
إذاً: هي حادثة، وهذا هو معنى البدعة في الإسلام، وقد كان تعبيره عليه الصلاة والسلام بيناً في ذلك، وذلك لما كان يقول في مقدمة خطبته -كما في حديث جابر في الصحيح-: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) فلفظ الحدوث هنا لفظ بين، أي: أن فيها حدوثاً، بمعنى أنها طرأت على الإسلام وهي ليست منه.
وهذا يميز مدارس العقائد كلها الخارجة عن أهل السنة والجماعة؛ لأنها تنتهي إلى أسماء، وقد يكون اسماً واحداً، وقد يختلف أهل التاريخ والمقالات في اسم من الأسماء، وهذا ليس مهماً، بل المهم أن هناك تأكداً علمياً بيناً أنها تنتهي إلى أسماء، وهذا الانتهاء يعني: تحويل العقائد إلى اجتهاد؛ لأنه إذا سألت سؤالاً شرعياً وعقلياً: ما معنى أن يختص فلان من الناس في قرن من القرون بمذهب عقدي كي ننسبه إليه؟
قد يقال كما يقوله بعض مدارس العقائد المنتسبة للسنة والجماعة: ما قاله هو عين ما قاله ورتبه من كان قبله من الأئمة.
وإذا كان ما قاله ورتبه هو عين ما قاله قبله أئمة السنة فأي معنى لاختصاصه والانتساب له؟ وأما إذا كان له اختصاص فيه فإن هذا يعني أن مسألة العقيدة تحولت من كونها مسألة الأصول في الإسلام والقطعيات في الإسلام، والمعرفة الأولى في توحيد الله سبحانه وأسمائه وصفاته، وقدره والإيمان به، وما إلى ذلك من الأصول التي توافرت فيها النصوص وأجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة السلف رحمهم الله -تحولت إلى وجه من الاجتهاد الخاص الذي يرسمه أحد الراسمين له في قرن من قرون الإسلام.
وهذا غير مقبول لا شرعاً ولا عقلاً: أن تتحول العقائد إلى نظريات اجتهاد، ولا سيما إذا كان الشخص ذا تحول، فإننا نجد أن بعض هؤلاء قد يكون في أول أمره معتزلياً، ثم تحول عن عقيدة المعتزلة إلى مذهب آخر ..
وهلم جرا.
وبهذا يعلم علماً شرعياً وعلماً عقلياً أن انتهاء السند في مذهب من مذاهب المسلمين إلى رجل بعينه يدل على أن هذا المذهب مذهب بدعي في الإسلام.