التعصب والتقليد في باب السلوك ونتائجه

أما باب السلوك -وهو الباب الأصل المقصود هنا- فإن التقليد المنظم فيه بدأ في المائة الثانية، وذلك عند ظهور اسم التصوف، حيث أصبح جملة من العامة يتعصبون لبعض العارفين والناسكين، لكنه لم يظهر أثناء المائة الثانية إلى آخرها كمدارس صوفية منتظمة.

بل وجدت تجمعات بأسماء أولئك الزهاد والعباد، وصار لهم أصحاب يختصون بهم وبطريقتهم.

ولما كان العارفون والنساك والعباد أثناء المائة الثانية الغالب عليهم أنهم في أصولهم على السنة والجماعة، لم يكن هذا التقليد والتعصب يتولد عنه كثير من الإشكال، أو البدع المغلظة، وإن لم يكن هذا التقليد والتعصب شرعياً في باب السلوك.

لكن لما ظهرت المدارس والانتماءات الصوفية، صار هناك تميز تحت هذه الدائرة، وإذا طرأ علينا سؤال: هل التعصب في باب السلوك من حيث الأصل قدره في الإشكال مثل التعصب والاختصاص في باب العقائد؟

الجواب: لا؛ فإن باب السلوك من حيث الأصل يتعلق بتزكية النفس وإصلاحها، وهذا الباب يدخل الاجتهاد في كثير منه، بخلاف باب العقائد؛ فإنها كلمات وجمل ومعانٍ واحدة منضبطة لا يجوز الزيادة عليها ولا النقص منها، ولا أخذها على سبيل التفقه والاجتهاد؛ لتعدد الرأي واختلافه، أما باب السلوك وفقهه فإن فيه سعة أكثر.

ثم بعد ظهور اسم التصوف وظهور الصوفية المتأثرين بالأصول الكلامية والفلسفية، تحول باب السلوك إلى أثر عقدي.

إذاً: ما يتعلق بالسلوك قدر منه يقبل الاجتهاد، فقد يختلف بعض العارفين والسلوكيين والنساك في تقريب العبد إلى حقائق الإيمان الشرعية، وإذا جئت إلى هدي الإسلام الأول وهدي الصحابة رضي الله عنهم.

وجدت أن بعضهم يغلب عليه الجهاد، وبعضهم يغلب عليه الصوم، وبعضهم يغلب عليه كثرة ذكره وصلاته وقيامه بالليل وصيامه بالنهار، وبعضهم كثر اشتغاله بالعلم، فكانت النفوس مختلفة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه من يسأله عن فضائل الأعمال ربما أجاب بأجوبة لا أقول: مختلفة، وإنما متنوعة، فلما جاءه عبد الله بن بشر -وكان رجلاً قد اشتد في سنه- أوصاه بالذكر وقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) وهكذا.

فهذا التنوع في تأديب النفس وتزكيتها إذا كان على قواعد الشريعة وهديها فإنه يدخله كثير من الاجتهاد، وبحسب اختلاف الطباع والنفوس والأحوال فيه.

لكن لما تعلق التصوف بكثير من التصورات والمعاني العلمية العقدية أصبح كثير من هذا الاجتهاد لا يعد من الاجتهاد السائغ الجائز، فضلاً عن المشهور، بل أصبح اجتهاداً بدعياً، وبهذا نتج عن التعصب في باب التصوف والسلوك جملة من الإشكالات:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015