واعلم أن "كم" الاستفهاميّةَ لا يكون مميّزُها إلا واحدًا منصوبًا، و"كم" الخبريةَ تفسَّر بالواحد والجمع، وتضاف إلى مفسِّرها. وبعض العرب ينصب بـ "كَمْ" في الخبر، كما ينصب في الاستفهام، وهم بنو تميم، كأنّهم يقدّرون فيها التنوينَ، وينصبون. ومعناها منوَّنةً وغيرَ منوّنة سواءٌ، وهو عربيٌّ جيّدٌ، والخفضُ أكثرُ.
فإذا فُصل بين "كم" ومميِّزها في الخبر، عدلوا إلى لغةِ الذين يجعلونها بمنزلةِ عدد منوّن، وينصبون بها؛ لأنّه قبيحٌ أن يُفصَل بين المضاف والمضاف إليه؛ لأنّ المضاف إليه من تمام المضاف، فصارا كالكلمة الواحدة، والمنصوبُ يجوز أن يُفصل بينه وبين ما عمِل فيه، ألا تراك تقول: "هذا ضاربُ اليومَ زيدًا"، ولا تقول: "هذا ضاربُ اليومَ زيدٍ" إلا في ضرورة؟ فأمّا قول القُطاميّ [من البسيط]:
كم نالَنِي مِنْهُمُ فَضْلاً على عَدَمٍ ... إذ لا أَكادُ مِن الإقْتارِ أَحْتَمِلُ (?)
فالشاهد فيه أنّه لمّا فصل بين "كم" ومميِّزها، وهو فَضْلة، عدل إلى لغةِ من ينصب لقُبْح الفصل بين الجارّ والمجرور، ولا سيّما بغير الجارّ والمجرور، و"كم" ها هنا خبريّةٌ؛ لأنّه مدحٌ بتكثير الأفضال عليه عند عدمه لشدّة الزمان، وبلوغِ الفقر على حالٍ لا يُمْكِنه الارتحالُ للانتجاع وطلب الرزق. و"أحتملُ" من "التحمّل"، وهو الرَّحِيل، ويُروى "أجتمل" بالجيم، والمعنى: أَجْمَعُ العِظامَ، وأُخْرِجُ وَدَكَها، وأَتعلّلُ به، مأخوذٌ من "الجَمِيل"، وهو الوَدَك. ومن رواه كذلك قال: "إذ لا أزالُ". ومثلُ هذا الفصل والنصبِ قولُ زُهَيْر [من المتقارب]:
تؤمّ سِنانا (?) ... إلخ