. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وبعد وجوب اتِّباعِ الراجِح، فقد اختلَفَ الجدليُّون في أنه هَل يجبُ على المستَدِلِّ أن يُومئ في دليلِهِ إلى وجه الترجيحِ، أو لا:
فزعم بعضهم: أنه لا بُدَّ منه؛ فإنَّه من جملة الدليلِ. ولم يوجبهُ قومٌ للعسر.
وفَرَقَ الآمدي بين أن يرجح إِلَى نَفسِ الدليل أو أمرٍ خارج؛ فأوجَبَ الأوَّلَ دون الثانِي.
وأعلى مراتِبِ الأدلَّة السمعيَّةِ الإجماعُ القاطعُ؛ فإنَّ النسخ مأمونٌ فيه؛ إذ لا يتحقَّق إلَّا بعد زمانِ الوحيِ، وبعده النصُّ من الكتابِ والسُّنة المتواتِرَةِ، والغَرَضُ من الترجيح يتمَهَّد بفصلَينِ:
أَحَدِهِمَا: في تَرجِيحِ الألفَاظِ.
والثاني: فِي تَرجِيحِ الأَقيسَةِ وَالمَعَانِي، مَعَ التَّنبِيهِ عَلَى أمُورِ اختَلَفَ فِيهَا الأصُولِيون.
الفَصلُ الأَوَّلُ: في النُّصُوصِ:
مَتَى تَعَارَضَ لَفظَانِ، فَلَا يَخلُو: إِمَّا أَن يَكُونَا مِن الكِتَابِ أَو مِن السُّنَّةِ، أَو أَحَدُهُمَا مِن الكِتَابِ والآخَرُ مِن السُّنَّةِ:
فَإِن كَانَا مِن الكِتَابِ فَلَا جَرَيَانَ لِلتَّرجِيحِ فِيهِمَا بالنّسبَةِ إلَى النَّقلِ؛ لاستِوَائِهِمَا فِي التَّوَاتُرِ وَإنَّمَا يَقَعُ التَّرجِيحُ بِالنِّسبَةِ إِلَى المَتنِ أَو بِأَمرٍ خَارجٍ: فَمَا يَعُودُ إِلىَ المَتنِ أَن يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَاصًّا، وَالآخَرُ عَامًّا؛ فَيُقَدَّمُ الخَاصُّ عَلَى العَامِّ؛ لأنَّ الخَاصَّ يَتَنَاوَلُ الحُكمَ عَلَى وَجهِ لَا يَحتَمِلُ التَّأويلَ، وَفِي العَمَل بِهِ وَصَرفتِ العَامِّ إِلَى مَا وَرَاءَ مَحَل التَّخصِيصِ جَمعٌ بَينَ الدَّلِيلَينِ مِن بَعضِ الوُجُوهِ. وَكَذلِكَ يقَدمُ المُقَيَّدُ على المُطلَقِ؛ لأن في العمل بالمقيَّدِ عملًا بهما على الجملةِ، وفي العَمَلِ بالمُطلَقِ إِلغَاءٌ للمُقَيَّدِ من كُل وجهٍ، فالأَوَّلُ أولى، والعامُّ المتأَصِّلُ راجحٌ على الوَارد على سَبَب خَاصٍّ. وما ظهر فيه قصدُ العموم أَولَى. وما لم يُخَصَّ والأَقَلُّ تخصيصًا أَولَى. وما سيق لبيان أولى. والمنطوق أولى من المفهوم. والعاري عن الإضمار أولى والحقيقة كذلك. وحمل كلام الشارع على الحكم الشرعي أو الأكثر فائدة أولى. وما يستقل بالإِفادةِ أَولَى من المفتَقِرِ إِلَى بيان. وما لا يحتملُ النسخَ أَولَى.
وأما الترجيحُ بما يَرجِعُ إِلَى آمرٍ خارجٍ: فبموافقة أحَدِهِمَا للأصولِ أو اقترانِهِ بدلالةِ التعليلِ، أو بأَنه أَحْوَطُ أوْ أقَلُّ محظورًا، وهل الناقلَ أولَى من المقرَّر أوْ لَا؟ فيه خلافٌ:
الأصحُّ: أنَّ الناقل أَوْلَى؛ لأنه أكْثَرُ فائدةً، والتأسيس أوْلَى من التأكيدِ.
وأما إنْ كانا من السُّنَّة: فيقع الترجيحُ فيهما بما يَقَعُ به الترجيحُ في الكتابِ، وبأمورٍ أُخَرَ منها ما يَعُودُ إلَى السَّنَدِ، ومنها ما يعودُ إلى المَتْنِ، ومنها ما يَعُودُ إِلَى أَمْرٍ خارجٍ:
فأما ما يعودُ إلى السَّنَدِ: فمنه ما يعودُ إِلى الرَّاوي، ومنه ما يعود إلى الرواية:
فأما ما يعود إلى الراوي فيرجح بكَوْنِ راوي أحَدِهِمَا عالمًا أو أعْلَمَ، أو حافِظًا أو أَحْفَظَ، أو ورعًا أو أوْرَعَ، أو يكون أحدهما من عُدُولِ أهْلِ السُّنَّة، والآخَرُ من عُدُولِ أهْل البدعهِ عِنْدَ من يَقْبَلُهُ، أو بأنه صاحبُ الواقِعَةِ، أو بمعرفته في اللُّغَةِ، أو بمخالطته ومجالسَتِهِ العلماء والمحدِّثين،