. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

والترجيحُ عبارةٌ عن تَغلِيبِ إِحدى الأمارَتَينِ على الأخرَى في سبيل الظُّنونِ، وحاصلُهُ يرجعُ إلَى اختصاصِ إحداهما لِمَزِيدِ قوَّةٍ، وإنما قيَّدناه بالأمارة؛ لأنه لا ترجيحَ في القطعيَّاتِ؛ إذْ ليس بعد القطْعِ مرتبةٌ، ولا تفاوُتَ في العلومِ.

وزعَمَتِ الفلاسفةُ وبَعض الصوفيَّة أن العِلمَ يقبل الأشدَّ والأضعَفَ.

واحتج لهم الغَزَّاليُّ في بعض كتبه بأنَّ عِلْمَ الواحد مِنَّا بالله تعالى لا يساوي عِلمَ النبيِّ - - عليه السلام - وهذا فيه مغالطةٌ؛ فإنا لا نَدَّعِي أنَّا نَعلَمُ من صفاتِ الله تعالى ما يعلمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نقولُ: إِذا تعلَّق عِلمُ الرسُولِ مثلًا بأنَّ الله تعالى موجودٌ، وتعلَّق عِلمُنَا بذلك- فلا تفاوُتَ بين هذَين العِلمَينِ، وإنما يفاوت علم النبي - صلى الله عليه وسلم - عِلمَ غيره بكَثرَةِ متعلَّقاتِهِ، وإدراكِهِ من الله تعالى ما لم ندركهُ، أو بتوالى أمثالِه، وقلَّة أضدادِ علومِهِ من الغفلاتِ والشُّكُوكِ، أو في طريقه، بأن يُخلَقَ له علمٌ ضروريُّ بما هو نظري لغيرِه.

والعلُوم كُلُّهَا بعد حصولها ضروريَّة، وإنما تتفَاوَتُ طرقُهُا بقربها من الضروريَّاتِ، وباختلافِ حال النَّاظِرِ في طلبها بحدَّة الذهنَ، وجودَةِ القَرِيحَةِ أو كَلالِ بعضها، وقلَّة الممارَسَةِ.

أما العِلمُ نفسُهُ، فلا تفاوُتَ فيه ألبتَّةَ، ولو فرض نَصَّانِ قاطِعَانِ في النقلِ والدَّلالةِ، فلا يُتَصَوَّران إلَّا فيما يقبل النَّسخَ، والمتأخِّر منهما ناسخٌ، وليس مِن مواضِع الترجيحِ، وإن نُقِلَ تأخر أحدهما بطريقِ الآحَادِ، فالعمل به أَولَى؛ لأن احتمال كونِهِ ناسخًا راجحٌ؛ وعورِضَ الترجيحُ فيه لا من جهةِ مَا قَطَعنَا به، وإِنما من جهةِ دوامِهِ، وهو من هذا الوجهِ مظنونٌ، فجرى الترجيحُ فيه، وقد أجمَعَ السابقونَ واللَّاحِقُونَ علَى وجوب العملِ بالراجِحِ في مسالِكِ الظنُونِ، ولم يُنكِرهُ إلَّا من شَذَّ؛ كالبَصرِي الملقب بـ"جعل" وهو مسبوقَ بالإجماع، حتى من أَنكَرَ القياسَ اعترف بجريانِ الترجيحِ في الظَّاهر، ولا يَصِحُّ قياسه على الشهادةِ؛ فإِنها مسألة اجتهادية.

وعن مالك في ترجيحِ البيناتِ بالأعدَلِ وكثرةِ العَدَدِ، ثلاثُ رواياتٍ:

الثالثة: تُرَجَّحُ بالأعدلِ دون العَدَدِ، وهو المشهور. وللشافعى في القديم ميلٌ إِلى بعض ذلك، بتقدير تسليم امتناعِ الترجيحِ في الشهادةِ؛ فلا يصحُّ القياس عليها؛ لأن المقصود منها فضلُ الخصوماتِ على قربٍ، فَقَدَّرها الشارعُ على وجهٍ ينضبطُ مع أن لَهُ فيها تعبُّدات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015