. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فلا بُدَّ مِنْ دليلٍ شرَعيٍّ يوصِّل إِلَى أَنَّ هذا الطريق مِنْ مقاصِدِ الشَّرْعِ؛ وذلك لا يُعْرَفُ إلَّا بِالاعْتَبِارِ الخاصِّ: إما بعينه أو بجنسه القريب، فَحظُّ العَقْل أَنْ يدرك أنَّ السرقة مفسدة فتناسب شرعًا زاجرًا، أما كَوْنُ الزاجر قَطْعًا أو ضَرْبًا أو حَبْسًا أَو اسْتِرْقَاقًا، والقَدْرُ الِّذِي يُقْطَعُ فِي مِثلِهِ- فَلَيسَ فِي العَقْلِ ما يُرْشِدُ إِلَى ذلك إلا بتوقيفٍ شرعيٍّ، وكذلكَ سائرُ الأبْوَابِ غايَةُ العَقْلِ تَعليلُ أصْلها، أمَّا تفاصيلها، فلا يكادُ يَطَّلِعُ على شيءٍ مِنْ أَسرارها إلا ما أشار إِلَيه الشَّرْعُ فيها، هذا تلخيصُ المباحِثِ المشهورة، وأمَّا الإِمامُ فقَدْ قال عَلَى ما لَخَّصَهُ الغَزَّاليُّ فِي "المَنْقُول" مِنْ مختاره: الصَّحِيحُ عندنا أَنَّ الاستِدْلَال المُرْسَلَ فِي الشَّرْعِ لا يُتَصَوَّرُ حتَّى يحكم علَيه بنفْيٍ أو إِثباتٍ؛ إِذِ الوَقَائِعُ لا حَصْرَ لها، وكذلك المَصَالِحُ، وما مِنْ مسألةٍ تَعْرِضُ إلَّا وفي الشَّرْعِ دليلٌ عَلَيها: إِمَّا بِالقَبُولِ أو بالرَّدِّ؛ فإِنَّا نعتقدُ استحالةَ خُلُوِّ واقعةٍ عن حُكْم الله تعالى؛ خلافًا للقَاضِي؛ فإِن الدِّينَ قَدْ أُكْمِلَ وَاستأْثَرَ الله -تعالى- بِرَسُولِهِ، وانْقَطَعَ الوَحْيُ، ولم يكُنْ ذلِكَ إلا بَعْدَ إِكْمَالِ الدِّين؛ قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة 3]؛ والذي يَدُلُّ عَلَى عدم تصوُّره أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ تَنْقَسِمُ إِلى:
مواقِعِ التَّعَبُّدَاتِ، والمُتَّبعُ فيها النصُوصُ وما فِي معانيها فما لم تُرْشِدِ النصوصُ إِلَيه، فلا تَعَبُّد به.
وإلى ما لَيسَ مِنْ المتعبَّدات وهو ينقسِمُ إِلَى:
ما يتعلَّق بالألْفَاظِ؛ كالأيمَانِ، والمُعَامَلَاتِ، والطَّلَاقِ، والعَتَاقِ، وقد أحَال الشَّارعُ موجباتِهَا علَى قضايا العُرْفِ، ولا يَنْفَكُّ لفظ عن قضايا العُرْفِ فيها بنَفْيٍ أو إثباتٍ إلا فيما استثناه الشارعُ؛ كَالاكتفاءِ بالعثكال الَّذِي عَلَيهِ مِائة شمراخ إذا حَلَفَ. لَيَضْرِبَنَّهُ مَائَةً؛ كما فِي قِصَّة أيُّوبَ -عليه السلام- ولم يُنْسَخْ مِنْ شَرْعِنَا.
وَإلَى ما يتعلَّق بِغَيرِ الألفاظِ، وهو ينقسم إِلَى:
ما لا ينضبط فِي نَفْسِهِ؛ كالنجاساتِ والمحظُورَات، وطُرُقِ تَلَقِّي الأَمْلَاكِ؛ فهذه الأَحْكَامُ منضبطةٌ، وَمُسْتَنَدَاتُهَا معلومةٌ.
وَإلَى ما لا ينضبطُ إلا بالضبطِ مِنْ مقابِلِهِ؛ كالأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ والأفعالِ المباحةِ تَنْضَبِطُ بأنْ تُضْبَطَ النجاسةُ والحَظْر؛ وكذلك الأملاك تنضبطُ بضبط طرق النقل، والباقي على الاسترسال في الطرف الثاني؛ فإِذا وَقَعَت واقعةٌ، أُلْحِقَتْ بأحد الجانبين، وإن تردد بينهما، فجاز بها الطرفان - لحقت بأقربهما، ولا بد أن يلوح الترجيح غالبًا لا محالة؛ فيخرج منه أنَّ كل مصلحةٍ تتخيَّل فِي كُلِّ واقعةٍ مُحْتَوشَةِ الأُصُولِ المعارضة لا بُدَّ أنْ تشهد الأصول لِرَدِّها أَوْ قَبُولِها، فأمَّا تقديرُ جَرَيَانِهَا مهملةً، فلا تصوُّر له، والله أعلم.
نجز الإِملاءُ علَى "مَعَالِمِ أُصُولِ الْفِقْهِ" بِحمد الله وعَوْنِهِ، وحُسْنِ توفيقِهِ.
والحَمْدُ لله وَحْدَهُ وصلواتُهُ علَى خَيرِ خَلْقِهِ مُحَمَّد، وعلى آله وصَحْبِهِ أجمعين.