. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
على علَّة -والحالة هَذه- كان نسخًا لحكم السببية, والعلَّةُ عند هؤلاء هي المعنى المُثبَتُ التامُّ, ولا يثبت الحُكمُ إلَّا مَعَ نَفي الموانِعِ ووُجُودِ والشرَائِطِ؛ فيأخُذُونَ من صورة المَانِعِ قيدًا في التعلِيلِ؛ وَيستَلزِمُونَ التعليلَ بالعَدَمِ, واعتمادُ هؤلاءِ عَلَى أن العلةَ الشرعيةَ كالعقليَّة؛ مَتَى تخلَّف عنْها حُكمُها بَطَلَ كونُها علةً، وهذا جميع بمجرَّدِ اللفظِ؛ فإنَّ العلةَ العقليَّة: إن سلم التعليل العقليُّ، اقتضَى حُكمها كونَهُ علَّة، لنفسِها وذاتِها، وتخلَّفُ صفة النَّفسِ محال, والعلَّةُ الشرعيةُ بالوضع، وهي راجعة إلى قَوْلِ الشارعِ؛ فإِن كانت بخطابِ الإخبارِ والوضعِ، فمعناه أنَّ الشارع أخبر بنَصبها , ولا مَانِعَ من الإخبارِ بنَصبها بمعرفة في بعض محال وجودها، وإِن كان نَصبُها راجعًا إلى أَمْرِ المجتهد بإثباتِ الحُكمِ بها في بَعْضِ مجاريها أيضًا, ولو قدَّر فيها معنى البَاعِثِ، فلا مانعَ أن تكونَ القرابَةُ مثلًا باعثة على الإكرَام، ما لم يعارضهَا عداوة، والشِّدَّةُ المُطرِيةُ لم تكُنْ علة قَبْلَ تحْرِيمِ الخَمرِ، ثم صارَت علَّة، ولأَن القرابَةَ تُنَاسِبُ الميراثَ؛ للمصاهرة، ما لم يوجَد مانعُ الكُفْرِ الموجِبِ للعَدَاوَةِ الدينيَّة، أو القَتلِ أو غَيرِ ذلك.
وقد حَسَمَ بعضُهم القَوْلَ بالتعليلِ العقلي على أصْلِ الشَّيخِ أبي الحَسَنِ؛ وقال: ما يتخيَّلُ فيه التعليلُ: إِما وجودٌ أو عَدَمٌ أو حَالٌ، والوجودُ ينقسم إلى واجب وجائز، والواجبُ يُستغْنى بوجوبه عن مؤثر، والجائزاتُ بأسرِهَا مُستنِدَة إِلى الله -تعالى- خَلقًا واختراعًا، والعَدَمُ لا يؤثر ولا يتأثَّر، وتعليلُ مِثلِ العالميَّةِ بالعِلم مبني على إثباتِ واسِطَة بَينَ الوُجودِ والعَدَمِ، وهو باطلٌ, وما يحصُلُ عِنْدَ بعضِ الامتزاجاتِ أوَ التقريباتِ مما يَعُدُّهُ الطباعيون عللًا- فأمورٌ أَجرَى الله -تعالى عادَتُهُ بخَلقِهَا عَقيبَ ذلك؛ كالشبع عند الأكلِ، والرِّيِّ عند الشرب.
والمجوِّزون للتخصيصِ اختلَفُوا:
فمنهم مَن جَوَّز ذلك مُطلَقًا، وزَعَمَ أن وضعَ التعليل مُعَرّفا للأحكام كَوَضعِ الألفَاظِ العامَّة، وكما يجوزُ تخصيصُ اللفْظ العام يجوزُ تخصيصُ دلالةِ العلةِ ببَعضِ المَحَال. وضُعفَ بأن استعمال اللفظِ لإِرَادَةِ بَعْضِ مُسَمَّاه من باب المَجَازِ, واللفظُ العَام وُضِعَ للدَّلالةِ على الكُلِّ حقيقة بمجردِ اللفظِ، وللبَعضِ مع القرينَةِ، أو بالاشتراكِ عنْدَ قوْمٍ.
وأمَّا معرفةُ كَوْنِ الوصفِ علة: إِذا أَخَذنَا دلالتَهُ في المناسَبَةِ وَالقِرَانِ، فالمقارنةُ دليلٌ ظاهرٌ على الاعتبار؛ فإذا تخلَّفَ الحُكمُ عنهُ في صورة، فَقَد عارَضَ ذلك الاعتبارَ دليلُ الإهدَارِ؛ فلم تَبقَ غَلَبَةُ الظَّنِّ بنصبه.
ومن ها هنا فَرقَ قوم بين العلَّة المنصوصةِ والمستَنبَطَةِ، فقالُوا: الظَّنُّ الحاصِلُ من اللَّفظِ لا يَزُولُ بالتخلُّف؛ فإنَّ دلالةَ التخلُّفِ على الإهدَارِ استنبَاط؛ فلا يُعَارِضُ الدلالةَ اللفظيةَ؛ فيتعيَّن أن يكُونَ التخلُّفُ فيه لمانِع أو فواتِ شرْط.
ومِنهُم مَن عَكَسَ، وقال: التخلُّف قادِحٌ في المنصوصةِ دون المُستَنبَطَةِ. وهذا أضعفُ المذاهِبِ.