الحُجةُ الثالِثَةُ في المسأَلَةِ: قَولُهُ تَعالى: {كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وَجْه الاسْتِدلالِ: أَنهُمْ لَمّا أَمَرُوا بِكُل مَعْرُوفٍ، وَنَهَوْا عَنْ كُل مُنْكَرٍ -كانُوا مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأ والزلَلِ؛ فَكانَ قَوْلُهُمْ حُجةً.
اعْلَمْ: أَن هذا الاسْتِدلال إِنما يَتِمُّ إِذا قُلْنا: إِن الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِالألَفِ واللامِ، يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَقَد سَبَقَ الْكَلامُ فِيهِ. وَأَيضا: فَهذا خِطابُ مُشافَهَةٍ، فَهَبْ أَن أُولَئِكَ الأقوامَ، كانُوا في ذلِكَ الْوَقْتِ كَذلِكَ؛ فَلِمَ قُلْتُم: "إِنهُم بَقُوا بَعْدَ ذلِكَ الْوَقْتِ عَلَى تِلْكَ الصفَةِ"؟ ! وَلِمَ قُلْتُمْ: "إِن مَنْ جاءَ بَعْدَهمْ كانَ مَوْصُوفًا بِتِلْكِ الصِّفَةِ"؟ !
===
قوله: "سَلَّمنا أن كل ما يَقُولُونَهُ حَق، لكن لم قُلْتُم: إن كل حَق يكون حُجة؟ ؟ ":
قلنا: لأَنا نَقُولُ: لا يكون حَقًّا إلا لِمُوافَقَتِهِ الشرع"، والشرعُ واجِبُ الاتباعِ.
قوله: "لا يَجِبُ على مُجْتَهِدٍ مُوافَقَةُ مجتهد خالفَهُ":
قلنا: لأنه ظَن، وظن نفسه أَقوَى عنده وأَرْجَحُ، والرَّاجِحُ واجِبُ الاتباع.
قوله: "لا يَقْضِي القاضِي بعِلْمِهِ على رأي":
قلنا: لمعارض التهْمَةِ، كما لا يَقْضِي لولده.
قوله: "لا تقبل شهادة العَدَدِ الكثير من النَّساءِ في القِصاصِ والحُدُودِ":
قلنا: للشارع تَعبدات في "باب الشهادَةِ"، ومحل التعَبّدِ لا ينقض به، ولا يُقاسُ عليه.
قوله: "الحجةُ الثالِثَةُ: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... } [آل عمران: 110] وَجهُ الاستِدْلالِ بها أنهم لما أمروا بكل مَعرُوفٍ، ونهوا عن كل مُنكَرٍ -كانوا مَعْصُومِينَ من الخَطأ والزلَلِ؛ فكان قولهم حُجة":
واعلم أن تَقرِيرِ هذه الحُجةِ من هذا الوَجهِ، ضعيفٌ؛ فإنَّه رَتبَهُ على عِصمَتِهِم، ورَتبَ عِصمَتَهُم على أَنهم أمَرُوا بكل مَعرُوفٍ، ونهوا عن كُلِّ مُنكَر، مع أنا نَعلَمُ قَطعًا وَيقِينًا أن كُلَّ علماء كُلّ عَصْرٍ لم يأمروا بكل مَعرُوفٍ، ولم ينهوا عن كل مُنكَرٍ تفصيلًا، فإن الوَقائِعَ لا تَتَناهَى تَقديرًا، ولا يَقَعُ في كل عَصر إلا بَعضُها، وإنما يأمرون بما وَقَعَ واتصَلَ بهم منها. ولكن يمكن تَقرِيرُها من وَجهِ آخر؛ وهو أن كل ما أمر به عُلَماءُ كل عَصر، فهو من المَعرُوفِ، وكل ما نهوا عَنْهُ، فَهُوَ من المُتكَبر؛ لأنه -تعالى- وَصَفَهُم بذلك في مَعرِضِ المَدْحِ لهم، والتعظِيم لشأنهم، والتفضِيل لهم على من عَداهُم من الأُمَم السَّالِفَةِ؛ وذلك يَقتَضِي إِصابَتَهُم في كل ما أَمروا به، ونهوا عنه، وإلّا لم يكن لهم مَزِية؛ فإن كل الأُمَمِ تُصِيبُ في بَعضٍ، وتخطئ في بَعْضٍ.
قوله: "واعلم أن هذا الاستِدلال إِنما يَتِمُّ إذا قُلنا: إن المُفْرَدَ المعرف بالأَلِفِ واللام يُفِيدُ العُمُومَ -وأَيضا فإنَّه خِطابُ مُشافَهَةٍ، فَهَب أن أولئك الأقوام كانُوا كَذلِكَ في ذلك الوَقتِ على