حُجَّةُ الْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ الْجَلْدَ، وَلَمْ يُوجِبِ التَّغْرِيبَ - كَانَ عَدَمُ وُجُوبِ التَّغْرِيبِ حَاصِلًا، فَلَوْ وَجَبَ التَّغْرِيبُ؛ فَحِينَئِذٍ: يُزولُ ذلِكَ العَدَمُ السَّابِقُ؛ وَهذَا نَسْخٌ.
الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ قَبْلَ وُجُوبِ التَّغْرِيبِ: كَانَ كُلُّ الْوَاجِبِ هُوَ الْجَلْدَ، فَإِذَا وَجَبَ التَّغرِيبُ- لَمْ يَبْقَ الْجَلْدُ كُلَّ الوَاجِبِ؛ بَل صَارَ بَعْضَ الْوَاجِبِ، فَقَدْ زَال حُكمٌ مِنَ الأَحْكَامِ؛ وَذلِكَ نَسْخٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّ "الْفَاءَ" فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] لِلْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِلْكَافِي، وَكَوْنُهُ كَافِيًا يَمْنَعُ وُجُوبَ غَيرِهِ: فَلَوْ وَجَبَ التَّغرِيبُ؛ فَحِينَئِذٍ: يَبْطُلُ المَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هذِهِ الْفَاءِ؛ فَكَانَ نَسْخًا.
الْجَوَابُ عَنِ الأَوَّلِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذلِكَ الْعَدَمَ الَّذِي يَزُولُ: نَسْخٌ؛ لأَنَّ ذلِكَ الْعَدَمَ إِنَّمَا ثَبَتَ بِمُقتَضَى الْبَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ، أَمَّا اللَّفْظُ: فَلَا دَلالةَ لَهُ عَلَيهِ أَلْبَتَّةَ، وَالنَّسْخُ لَيسَ إلا عِبَارَةً عَنْ زَوَالِ شَيءٍ مِنْ مَدْلُولاتِ اللَّفْظِ؛ فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ فَرْقٌ بَينَ عَدَم الدَّلَالةِ عَلَى الشَّيءِ، وَبَينَ الدَّلَالةِ عَلَى عَدَم الشَّيءِ؛ فَحَقٌّ: أَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّغْرِيبِ، وَلَيسَ بِحَقٍّ: أَنَّها تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّغْرِيبِ، وَالشُّبْهَةُ إِنمَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُخَالِفِ؛ بسَبَب عَدَم التَّمْيِيزِ بَينَهُمَا.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ يَقتَضِي أَنْ يُقَال: إِنهُ تَعَالى أَمَرَ بِالصَّلاةِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَمَرَ
===
قوله: "حجة المخالف من وجوه: الأول أنَّ الشَّارعَ لما أوجبَ الجَلْدَ ولم يوجب التغريب كان عَدَمُ وجوب التغريبِ حاصلًا، فَلَمَّا وجب التغريبُ زال ذلك العدم" وما ذكره واضِحٌ أَنهُ ليس بحكمٍ شَرْعِيّ، كما أجاب عنه.
قوله: "الثاني أنه قبل وجوب التغريب كان الجلد كُلَّ الواجب":
وهذا أيضًا واضِحٌ أنه ليس رفعًا لحكم، إنما هو تابع لرفع البراءة الأصلية كما ذكر.
قوله: "الثالث: أنَّ "الفاءَ" في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} [النور 2] للجزاء الكافي، وكونه كافيًا يمنع وجوب غيره" وجوابُهُ عنه بأَنَّهُ إنَّمَا أورده مثالًا في هذه المسألة بتقدير أَلا يَحْصُلَ في الآية لَفْظٌ يَدُلُّ على عدم وجوب التغريبِ، فإنْ لم يكن الأمر كذلك- فليطلب له مثال آخر.
لا وَجْهَ لتوقُّفِهِ في عَدَمِ إِشعارِ الجزاءِ بنفي التغريب من جِهَةِ اللَّفظِ، على ما منعه في الجواب الثاني؛ فإنّ لازِمَ الشَّرْطِ: حُصُولٌ عند وُجُودِهِ، أمَّا أنه لا يحصل سواه فليس من قِصَّةِ الشرط. ثم لو سُلِّمَ إِشعَارُهُ بالنفي، فهو ظاهِرٌ، وتركه لا يكون نسخًا بل تأويلًا.