فَنَقُولُ: إِيجَابُ الْجَلْدِ لَا يَدُلُّ عَلَى حَالِ التَّغْرِيبِ: لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا؛ وَيَدُلُّ عَلَيهِ وُجُوهٌ:

الأَوَّلُ: أَنَّ إِيجَابَ الْجَلْدِ قَدْ يَحْصُلُ مَعَهُ إِيجَابُ التَّغْرِيبِ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ

ذلِكَ، وَمَوْرِدُ التَّقْسِيمِ إِلَى الشَّيئَينِ مُشْتَرَكٌ بَينَهُمَا، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُشتَرَكِ بَينَ الشَّيئَينِ فَقَطْ: لَا إِشْعَارَ لَهُ أَلْبَتَّةَ بِخُصُوصِ ذَينِكَ الشَّيئَينِ.

الثَّانِي: لَوْ قَال: "الزَّانِي يُجْلَدُ ويغَرَّبُ"، أَوْ قَال: "الزَّانِي يُجْلَدُ وَلَا يُغَرَّبُ"-: لَمْ يَكُنِ الأَوَّلُ نَقْضًا، وَلا الثَّانِي تَكْرَارًا.

الثَّالِثُ: أَنَّ إِيجَابَ الْجَلْدِ مَاهِيَّةٌ، وَإِيجَابَ التَّغْرِيبِ مَاهِيَّةٌ أُخْرَى، وَلَا تَعَلُّقَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالأُخْرَى: لَا بِالنَّفْيِ، وَلَا بِالإِثبَاتِ؛ فَكَانَ إِيجَابُ الْجَلْدِ خَالِيًا عَنْ إِثْبَاتِ التَّغْرِيبِ وَنَفْيِهِ؛ فَثَبَتَ: أَنَّ إِيجَابَ الْجَلْدِ لَا دَلالةَ فِيهِ عَلَى حَالِ التَّغْرِيبِ أَلْبَتَّةَ، وَإِذَا كَانَ كَذلِكَ- كَانَ إِيجَابُ التَّغْرِيبِ لَا يَزِيدُ شَيئًا مِمَّا دَلَّ عَلَيهِ إِيجَابُ الجَلْدِ؛ فَلَمْ يَكُنْ ذلِكَ نَسْخًا.

===

الوسطى عن كونها وسطى-: باطِلٌ؛ لتبقى كُلِّيَّةُ الواجب، وإِخراجُ الأخيرة عن كونها أخيرةً، وكُلُّ ذلك تابعٌ لرفع البراءة الأَصْلِيَّةِ؛ فلا يكونُ نسخًا.

الصورة الثانية: زيادة جُزءٍ في العبادة الواجبة؛ كما لو زِيدَ في الصبح ركعتانِ.

قال الشافعي وجماعة: وليس بنسخٍ أيضًا؛ لوجوبِ الركعتين، والأَرْبَعَةُ ركعتانِ وزيادَةٌ.

وقال أبو حنيفةَ، والغزاليُّ، وأكثرُ الأُصولِيِّينَ: إِنَّهَا نَسْخٌ؛ لأجل رفعها لاستعقاب التَّشَهُّدِ السَّلامَ، وتحريمِ الزيادة، وذلك حُكْمٌ شرعيٌّ، ومنعوا أنَّ الأربعة ركعتان وزيادة؛ لأنه لا يعين هذا الاعتبار، ويمكن تعلقها بدونه، ولو جازَ ذلك لجاز أنْ يقال: إنها ثلاثةٌ وزيادة، والشيءُ الواحِدُ لا يقوم بمحلين على البَدَلِ.

الصورة الثالثة: زيادة شرط؛ كما لو أوجب الصلاةَ أوْلًا، ولم يشترط فيها الطهارَةَ، ثم شرطها بعد ذلك، فقيل: ليس بنسخ وإِجزَاؤهَا بدون الطهارة أَوَّلًا مأخوذٌ من عَدَمِ دليلٍ شَرْعِيٍّ.

وقيل: نسخ؛ لأن الفعل بدون الطهارة حينئذٍ خَرَجَ عن كونِهِ مأمورًا به.

الصورة الرابعة: لو أوجب الحَدَّ أَوَّلًا ثمانين ثم زاد عليه عشرين.

قال الشافعي: ليس بنسخ؛ لبقاء وجوبِ حَدِّ الثمانين وإِجْزَائها عن نفسها وقال أبو حنيفةَ:

يكون نسخًا؛ لرفعه تحريمَ الزيادة.

وما ذكره صاحب الكتاب من هذا القسم؛ فقد احتج فقال: إيجابُ الجلد الأَوَّلِ لا يَدُلُّ على حال التغريب: لا نفيًا، ولَا إثباتًا، فإِثباتُ التغريب لا يكون مزيلًا لشيء مِمَّا دَلَّ عليه اللفظ الأول، فلا يكون نسخًا شرعِيًّا، بل رفعًا لمقتضى البراءة الأصلية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015