بَعْدَهَا بِالصِّيَامِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هذَا التَّكْلِيفُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلأَوَّلِ؛ لأَن عِنْدَ التَّكْلِيفِ الأَوَّلِ: كَانَ كُلُّ الْوَاجِبِ هُوَ الصَّلاةَ، وَعِنْدَ وُرُودِ التَّكلِيفِ الثَّانِي: مَا بَقِيَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِنَا: "كُلُّ الْوَاجِبِ هُوَ الصَّلاةُ".
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّا إِنَّما أَوْرَدْنَا الْمِثَال فِي هذِهِ المَسْأَلَةِ -"مَسْأَلَةِ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ"- عَلَى تَقدِيرِ أَلَّا يَحْصُلَ فِي الآيَةِ لَفْظٌ يَدُلُّ علَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّغْرِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ كَذلِكَ- فَلْنَطلُبْ لَهُ مِثَالًا آخَرَ عَلَى أَنَّا نَقُولُ: "الْفَاءُ" فِي اللُّغَةِ: لِلتَّعْقِيبِ.
وَأَمَّا أَنْ يُقَال: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَزَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَافِيًا- فَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ.
إِذَا قَال الله تَعَالى فِي الصُّبْحِ: "صَلُّوا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ رَكعَتَينِ"، ثُمَّ قَال قَبْلَ حُضُورِ ذلِكَ الْوَقْتِ: "لَا تُصَلُّوا"- فَهذَا- عِنْدَنَا- جَائِزٌ؛ خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
===
والضَّابِطُ الكُلِّيُّ -في هذه الصُّوَرِ-: أَنَّ كُلَّ نَصٍّ متأخِّرٍ اقتضى زيادةً مُغَيِّرَةً لحكمٍ ثَبَت بالشرع- فهو نَسْخٌ؛ إِذْ هو حقيقةٌ، وما لا فلا، والبحث في جميع الصورِ راجِعٌ إِلى تحقيق مناط.
ومن تمام هذا الأصل:
أنَّ نَسْخَ ما يتوقف عليه صِحَّةُ العبادة من جزءٍ أو شرطٍ هل يكون نسخًا للفعل أو لا؟
اختلفوا فيه:
مِثَالُ نسخ الجزءِ: قوله: صَلِّ الظهر أربعًا ثم أَسْقِط ركعتينِ.
قال الكرخيُّ والفخرُ صاحِبُ الكتاب: ليس بنسخ للأصل؛ لبقاءِ وُجُوبِ الركعتينِ وإجزائهما عن أنفسهما، ولأَنَّ النَّصّ المُتَنَاولَ لأمرين لا يَلْزَمُ من خُرُوجِ أَحَدِهِمَا خُرُوجُ الثاني؛ كالتخصيص.
وقال الغزاليُّ وجمهورُ الأُصوليين: يكون نسخًا للأَوَّلِ؛ فَإِنَّ وجوبَ الركعتين كان تابعًا لوجوب الأَربعِ، وقد سَقَطَ وجوبُ الأربع، فسقط وجوبُ الركعتين المنضمتين، وهاتان ركعتان مستقلَّتان، وليس طَلَبُ الأَربعِ طلَبَ الركعتين وركعتين [و] إلا لكان الآتي بالأَرْبَعِ بعد النسخ ممتثلًا.
وأمَّا نسخ الشرط: فكما لو أَمَرَ بالصلاة بطهارة ثم نَسَخَ وجوبَ الطهارة: فقد وافق الغزاليُّ