فما كان مرادفاً لمعنى الكلام عند النحاة فهو الجملة الاسمية والجملة الفعلية، حينئذٍ إذا قيل: زيدٌ قائمٌ. دل على ثبوت القيام لزيد، هذا معنى جزئي أو مركب؟ معنى مركب؛ لأنه استُفيد وأُخذ ودُل عليه، وفُهم من مركب وهو جملة اسمية وهو قولك: زيدٌ قائمٌ.
إذاً: مدلول هذا التركيب -التركيب الإسنادي التام- زيدٌ قائمٌ يسمى معنى، وصول النفس إلى المعنى المركب الذي دل عليه هذا اللفظ يسمى إدراكاً.
قوله: "بتمامه" المراد به أن النفس قد تصل إلى بعض المعنى، وهذا كما يقع من الشاك، أو في المتردد في هذا المعنى.
إذا قيل: خندريس قد يتوارد إلى الذهن معنًى ما .. لعله ولعله ولعله، نقول: هذا المعنى ليس هو الوارد من حيث إطلاق اللفظ في لغة العرب، لكن قد يصل إلى كون هذا اللفظ يراد به معنى الخمر، لكنه لا على جهة الجزم. حينئذٍ نقول: هذا وَصَل إلى المعنى لا بتمامه وهذا لا يسمى إدراكاً وإنما يسمى شعوراً عند المناطقة.
إذاً: لا بد أن يستوفي هذه الأركان: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فحينئذٍ يسمى إدراكاً.
"من نسبةٍ أو غيرها" هذا تفصيلٌ للمعنى؛ لأن الذي يُدرك من المركَّبات إما أحدُ جزئي المركب، وإما الارتباط والعلاقة بين الجزأين، وإما دلالة المركب.
إما أحدُ جزئي المركب، وإما النسبة والارتباط بينهما، وإما الدلالة التركيبية.
فإذا قلت: زيدٌ قائمٌ، إدراكُك لمعنى زيد هذا إدراكٌ لمفرد، قائم إدراكُك معنى قائم، يعني: ماذا فهمتَ من لفظ قائم؟ ثبوت القيام مثلاً. هذا إدراك أحدُ الجزأين، بقي العلاقة والارتباط بينهما الذي يسمى النسبة عند المناطقة، هذا الثالث.
الرابع: إدراك الجزأين مع النسبة على جهة الوقوع والإيجاد في الخارج، وهذا الذي سيأتي أنه هو التصديق.
إذاً: "وصول النفس إلى المعنى بتمامه من نسبةٍ فقط أو غيرها" يعني: غير النسبة "كإدراك الموضوع والمحمول، أو إدراك الموضوع فقط، أو إدراك المحمول فقط، أو الموضوع دون النسبة، أو المحمول دون النسبة". كما سيأتي.
إذاً: (العلم هو إدراك المعاني مطلقاً) فهو مطلقُ الإدراك، وعرفنا المراد بحد الإدراك: وصول النفس إلى المعنى بتمامه. زاد بعضهم: من نسبةٍ أو غيرها.
والنفس: هي القوة العاقلة للمعنى.
والمعنى هنا يشمل المفرد الذي هو التصور، ويشمل كذلك المعنى المركَّب الذي هو التصديق.
(من نسبةٍ أو غيرها) منْ بيانية، والنسبة هي النسبة الحُكمِية الخارجية، وهذا التصديق وسيأتي.
(أو التقييدية) وهذا تصور.
(أو غيرها) أي: أو غير النسبة، كإدراك الموضوع وحده، أو إدراك المحمول وحده، أو إدراك الموضوع والمحمول معاً دون النسبة، هذا مراده بغير النسبة.
(فالإدراك: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فإن وَصَلَتَ إليه لا بتمامه يسمى عندهم في الاصطلاح شعوراً وليس إدراكاً؛ -لأن أول مراتب الطلب عندهم الشعور- ثم التصوُّر، ثم إن طلبه وبقي في حافظته سُمِّي حفظاً والطلب تذكُّر والوجدان ذِكرٌ).
الخلاصة: أن العِلم عند المناطقة هو إدراك المعاني مطلقاً، شمِل هذا الحد نوعي العلم: الذي يسمى بالتصور، والذي يسمى بالتصديق.