حينئذٍ صار العلم منقسِماً إلى هذين النوعين، فما كان المعنى فيه مفرداً فهو التصور، وما كان فيه المعنى مركباً إسنادياً تاماً فهو التصديق. والإدراك مر معنا.

ومطلق الإدراك هنا إدراك المعاني مطلقاً، هل قيَّده بكونه جازماً أو لا؟ نقول: لا لم يقيِّده، هل قيّده بكونه مطابقاً للواقع أو لا؟ نقول: لا. لم يقيِّده.

ينتج من ذلك: أن العلم عند المناطقة يَدخل فيه الظن، ويدخل فيه الجهل المركَّب، ويشمل كذلك ما يسمى بالنسبة المشكوك فيها، ويدخل فيه كذلك ما يسمى بالنسبة المتوهَّمة. أربعة أشياء.

فكل إدراك عند المناطقة يسمى علماً، ولذلك الجهل البسيط ليس بواردٍ هنا؛ لأنه عدمُ الإدراك، ونحن قلنا العلم هنا إدراك. إذاً: لا بد أن يكون فيه إدراك، وأطلق الإدراك سواءٌ كان على وجه الجزم الذي يسمى عِلماً ويُخص به عند الأصوليين، أو لا على وجه الجزم فدخل الظن؛ لأن الظن ما هو؟ إدراك الشيء إدراكاً غير جازمٍ.

إذاً: هو إدراكٌ للشيء لكنه غير جازم؛ لأنه يحتمِل النقيض فدخل الظن.

كذلك الجهل المركب دخل معنا أو لا؟ نقول: نعم دخل في حد العلم عند المناطقة على جهة الخصوص؛ لأنه إدراك الشيء. إذاً: فيه إدراك، فكلُّ ما كان إدراكاً فهو نوعٌ من أنواع العِلم عند المناطقة .. إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع.

بقي النسبة المشكوك فيها، هذا إذا أدرك الطرفين وشكَّ في الإيقاع وعدمه. يعني: لو أدرك زيد قائم وشك: هل بالفعل زيدٌ قائمٌ أم لا؟ الارتباط والعلاقة بين المحمول والموضوع هنا المبتدأ والخبر مشكوك فيها وقع أو لم يقع؟

زيدٌ مسافر، يأتيك خبرٌ زيدٌ مسافر فتشك: هل سافر بالفعل أو لا؟

هذه نسبة مشكوكة، تسمى عِلماً عند المناطقة؛ لأن الإدراك قد حصل، إدراك النسبة هنا والتعلق والارتباط بين الموضوع والمحمول قد وُجد.

النسبة المتوهَّمَة قيل: ما إذا رأى شبَحاً على بُعد قال: هذا أسد، فلما قرُب فإذا به زيد.

قوله: هذا أَسدٌ أَدرك الموضوع وأدرك المحمول وأدرك النسبة بينهما. هل هو بالفعل مطابق للواقع؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس بأسد.

يسمى هذا عند المناطقة بالنسبة المتوهمة، يظن أن هذا زيد وإذا قرب منه قال: هذا عمروٌ ليس بزيد. نقول: هذه نسبة متوهمة.

هي نوعٌ من العِلم، إذاً: العلم عند المناطقة وإن كان يختص على جهة العموم بالتصديق والتصور إلا أنه يشمل كذلك الظن، ويشمل الجهل المركب، ويشمل النسبة المشكوك فيها، والنسبة المتوهَّمة .. هذه كلها أنواع من أنواع العلم، كل واحدٍ منها نوع ويسمى عِلماً، بخلاف الأصوليين الذين جعلوا إدراك النسبة التصديقية هو العلم، أو -خصَّ بعضهم-: إدراك النسبة التصديقية على وجه الجزم أخص؛ لأن العِلم يُطلق ويراد به التصور والتصديق، وهذا مصطلح المناطقة.

يعني: يُطلق ويراد به إدراك المفردات، فإذا فهمت معنى المراد بلفظ زيد أو سماء أو أرض أو صلاة يسمى عِلماً، لكن عند الأصوليين لا يسمى علماً؛ لأنه ليس فيه حكم.

يُطلق عند المناطقة ويراد به التصديق يعني: الجُمل التركيبية، هذه الجمل قد تكون جازمة أو غير جازمة، قد تكون مطابِقة للواقع أو غير مطابقة للواقع. هذه أربعة أقسام دخلت كلها تحت التصديق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015