ولذلك قال في الكلمة الجائرة: من لا علم له بالمنطق لا ثقة في علمه. وهذا ليس بصحيح، هذا غلو.
سمَّاه: معيار العلوم وميزان العلوم، وكل علمٍ سواءٌ كان من الوحيين -من الكتاب والسنة- والعقيدة والنحو وأصول الفقه .. وغيرها، كلها متوقفةٌ على هذا الفن، لذلك عظَّموه أكبر من حجمه، وهذا التعظيم لا يُسلَّم، وإذا عظَّموه وأخطئوا نترك المنْطِق ونمشي ولا ندرسه؟ نقول: لا.
ندرُسه ونحترز عن هذا الخطأ وهو: أنه قد رُفِع فوق شأنه، وإنما نستفيد منه بالفائدتين المذكورتين السابقتين.
(نسبتُه لسائر العلوم: أعم مطلقاً، فكلُّ فنٍ داخلٌ تحت فن المنْطِق).
نعم هذا صحيح (كل فنٍ فهو داخلٌ تحت فن المنْطِق). كيف؟ كل علم يبحث في تصوُّرات وتصديقات، يبحث في معنى العام، معنى الخاص، معنى الناسخ .. ثم يُثبت لها أحكام.
البحث في التعاريف هذا يسمى تصورات، البحث في إثبات الأحكام لهذه التعاريف تصديقات.
إذاً: كل علمٍ فهو مشتمل على تصورات وتصديقات، لكنها تصوراتٌ خاصة وتصديقات خاصة، وكذلك عند النحاة والفقهاء والمحدِّثين كلهم يبحثون في التصورات لكنها خاصة، وفي التصديقات لكنها خاصة.
بحثُ المنْطِق يبحث في مطلق التصور من حيث هو، ومطلق التصديق من حيث هو. إذاً: صار أعم، فكل فنٍ صار داخلاً تحته؛ لأنه إذا جاء يعرِّف هناك لا بد أن يعرِّف على طريقة المناطقة.
وإذا أراد أن يثبت على أنها قاعدة كليَّة مطّردة لا بد أن يُثبت على طريقة المناطقة، فدخل كل فنٍ تحت المنْطِق.
من هذه الحيثية لا إشكال فيه ولا نزاع، ولكن كونه يفتقر إليه من حيث القواعد والتطبيق هذا فيه إشكال.
قالوا: لأن بحث الأصولي مثلاً يبحث عن الشيء الذي يتعلق به فن أصول الفقه، والعلم نوعان لا ثالث لهما: إما تصورٌ وإما تصديق.
فبحث الأصولي في التصورات والتصديقات هل هو من جهة الإطلاق أو من جهة ما يتعلق بفنه؟ الثاني.
فحينئذٍ صار كل تصورٍ أصولي داخلاً تحت التصور المنطقي، فبحثُ الأصولي في التصور الخاص، وبحثُ المنطقي في مطلق التصور.
بحثُ الأصولي في التصديقات الخاصة، وبحث المنطقي في مطلق التصديقات، ولذلك دخل تحته.
وَاشْتَهَرَتْ بِنِسْبَةِ العُمُومِ ... نِسْبَتُهُ لِسَائِرِ العُلُومِ
(الواضعُ) هذه فائدة هكذا، من هو واضع المنْطِق؟
قالوا: الفيلسوف اليوناني إِرَسَطَاطَاليس قيل: وُجد قبل المسيح بثلاثمائة سنة، وهو واضع هذا الفن.
قال عبد السلام:
أَوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ اليُونَانِي ... فِي الكُفْرِ قَبْلَ مَبْعَثِ العَدْنَانِ
ثم جاء إِرَسَطُو -بكسر الهمزة وفتح الراء والسين وضم الطاء إِرَسَطُو هكذا وليس أُرُسْطُو-.
وهو يونانيٌ أيضاً؛ لأن الفنون أول ما توضع توضع عشوائية، ثم لا بد من ترتيبٍ وتفصيلٍ وتهذيبٍ وتحقيقٍ .. ونحو ذلك.
وجاء إِرَسَطُو هذَّب وعدَّل، ولذلك يسمى المعلم الأول. هذا في عهد اليونان، ثم بعد ذلك لما تُرجم في عهد المأمون هارون الرشيد ونُقل إلى العربية قيل: أول من وضعه في الإسلام الفارابي: محمد أبو نصر الفارابي.
ثُمَّتَ فِي الإِسْلاَمِ لِلْفَارَابِي ... حَكِيْمِ الاَتْرَاكِ أَخِي الإِغْرَابِ