ولذلك نحن نقول -فيما مضى ويأتي إن شاء الله تعالى-: أن الإنسان إذا نظر حينئذٍ رتَّب أمرين فأكثر ليصل بهذين الأمرين المعلومين إلى مجهولٍ تصوري أو تصديقي، هذا لا يحتاج إلى لفظ، قد يحتاجه في نفسه ليرتب الأمرين، ثم يصل نتيجة ويكتفي بها، لكن إذا أراد أن يخبر لا بد من لفظٍ.
إذاً: المعنى الثالث: على النطق والتلفظ؛ لأن هذه الإدراكات إنما تبرز وتظهر بالنطق والتلفظ، فالتلفظ هو الذي يُظهِر هذه الإدراكات لأنك تدرك الأمر في نفسك أولاً ما الذي أدرانا أنك أدركت؟ عندما تُخبر باللفظ، فصار اللفظ وسيلة إليه.
قال هنا: (على الثاني والثالث يمكن اعتبار أن يكون المنطق اسم مكان).
إذا أطلقنا المنطق وأردنا به النَّفس العاقلة أو القوة العاقلة. منْطِق مفْعِل اسم مكان، وهذا لا إشكال فيه واضح.
(على النطق والتلفظ محلُّه) إذاً اسم مكان لا إشكال فيه، أما على الأول فلا؛ لأن الإدراك هو نفسُه المصدر الميمي.
ولذلك قال هنا -في الحاشية-: (المنطق يُطلق في الأصل على النطق اللساني، وعلى إدراك المعقولات.
وهذا العلم يقوِّي هذين المعنيين ويسلك بهما سبيل السداد، فلذا سُمِّي منطقاً).
هذا باعتبار المعنى اللغوي، أما في الاصطلاح عندهم فاختلفوا في حدِّه بناءً على اختلافهم في المنطق، هل هو علمٌ في نفسه أو أنه آلة لغيره؟
فاختَلف أهل التعريف بناءً على هذا الاختلاف، فإذا مر بك حينئذٍ تنظر: هل صدَّره بعلم أو صدَّره بآلة، بناءً على هذا الخلاف.
إذاً: هذا التعبير والاختلاف في التعبير من كونه عِلماً أو آلة هذا مبنيٌ على خلافٍ آخر وهو: هل المنطق علمٌ في نفسه أم أنه آلةٌ لغيره، ونحن نقول: لا خلاف بينهما، فقد يكون العلم آلة وهو علمٌ في نفسه.
ولذلك النحو مثلاً -باعتبار طالب العلم الشرعي-: وسيلة إلى الشرع، وهو علمٌ في نفسه مستقلٌ بكتبه وتعاريفه .. إلى آخره، وحينئذٍ كونه آلة لا ينفي كونه عِلماً بنفسه، كذلك هنا المنْطِق هو وسيلةٌ إلى الحكمة أو جزءٌ منها، ولا يلزم ألا يكون عِلماً في نفسه.
قال: (بناءً على اختلافهم في المنْطِق هل هو علمٌ في نفسه أم آلةٌ لغيره؟) هذا فيه نزاع.
(من قال: إنه علمٌ في نفسه عرَّفه بأنه: عِلمٌ يُبحث فيه).
صدّره بعِلمٍ، ثَم خلافٌ بماذا يُفسّر لفظ العلم في الحدود؟ هل يُفسَّر بالإدراك أو يفسّر بالقواعد والمسائل، أو المسائل التي هي القواعد والأصول، أو يفسَّر بالملكة؟
منهم من يحمله على الثلاثة المعاني، ومنهم من يحمله على الإدراك، ولكن إذا أردنا التخصيص حملُه على الثلاثة لا إشكال فيه؛ لأنه صار العلم يُطلق على الإدراك ويسمى علماً، وعلى القواعد ويسمى علماً، وعلى الملَكة وتسمى علماً. لكن إذا أردنا التخصيص فتقييده بالقواعد والأصول أولى.
(علمٌ) يعني: قواعد (يُبحثُ).
قال: (علمٌ يُبحثُ فيه) أي: في هذا العلم (عن المعلومات التصورية والتصديقية).
المعلومات التصورية نسبة للتصور يعني: المفردات.
والمعلومات التصديقية يعني: المُركَّبات، والمراد بالمركبات هنا التامة يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية.
هذه معلومة يعني: موجودة عندك حاضرة في الذهن في القوة.