وإلا الأصل أن الحد يشمل النوعين: المعقول والملفوظ، لكن لما أنَّ الحدود إنما تقع لرفع الجهل عن السائل، يسأل: ما المراد بالفاعل؟ ما المراد بالتمييز؟ ما المراد بالحال؟ إلى آخره.
فتجيبه. إذاً: إذا كان معقول بمعقول كيف تجيبُه؟ إذا كان الشيء المعقول يمْكن أنَّ الإنسان في نفسه لا يحتاج إلى لفظ، ولذلك حاجة المنْطِقي إلى مباحث الألفاظ كلها ليست لنفسه، وإنما الحاجة لغيره، وأما في نفسه يستطيع أن يرتِّب المعلومات والنظر والفْكْر، وينتج القياسات .. إلى آخره، ولا يحتاج أن يتلفظ، هو في نفسه أمور .. إدراكات، لكن إذا أراد أن يُخبر غيره كيف يخبرهم؟ لا بد من واسطة، وهي اللفظ هنا.
إذاً: لضرورة الإفهام والتفهيم اختص الحد هنا باللفظ، وإلا الأصل أنه شاملٌ للمعقول.
قال: (ولك أن تقول: إن التعريف شاملٌ للعقلي أيضاً.
بمعنى أنه لو ذُكر اللفظ الدال عليه لكان دالاً بالمطابقة على المحدود).
هذا من باب التجويز فقط، وإلا الأصل أنه خاصٌ باللفظ.
(الحَدُّ: قَوْلٌ) الحد المراد به قلنا التام هنا، وإن كان اسم الحد في الأصل يقع بالاشتراك اللفظي على التام الدال عليها بالمطابقة، والناقص الدال عليها لا بالمطابقة، بل بالالتزام.
فإن أُطلق هذا الاسم الذي هو (الحَدُّ) فالواجب أن يُحمل على التام الذي هو الحد الحقيقي وحدَه. هكذا قرره العطار.
(قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) أي: حقيقتِه الذاتية.
فسَّر الماهيّة بالحقيقة، ومر معنا أن الماهيّة والحقيقة بمعنى واحد، إلا أنه قد تُطلَق الماهيّة على المعدومات، وتختص الحقيقة بالموجودات، هذا سوَّغه العطار.
قال هنا: (عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ. إضافةُ ماهيّة إلى الشيء للعهد كما هو الأصل في وضع الإضافة أي: الماهيّة المعهودة، وهي جميع أجزاء المحدود).
إذا قيل: على ماهيّة الشيء يعني: على جميع أجزاء المحدود.
ويدل له قول المصنف: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ).
إذاً: تُحمل الماهيّة على الكمال، وهذا الذي يكون في شأن الحد، أنه يؤتى بكمال الماهيّة.
(قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) أي: حقيقتُه الذاتية، وإنما فسَّر الشارح الماهيّة بالحقيقة لأن الماهيّة -كما سبقت- تشمل المعدومات.
والذاتية -قيْدُ الذاتية-: أي المنسوبةُ إلى الذات بمعنى الأفراد، فاندفع هنا قول المحشّي: "الأَولى حقيقتُه وذاتُه" كلامُه ليس بجيد هنا.
قال: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) يعني: المعرَّف (وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ).
(وَهْوَ) عائدٌ على الحد التام.
(الَّذِي يَتَرَكَّبُ) لأنه لا حد إلا بتركُّب، لا بد من التركيب وإلا ما صار حداً، وأما المعاني المفردة فلا تقع حداً وإن جاز عقلاً.
(مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ) يعني: المعرَّف كالإنسان المسئول عنه، جنس الشيء يعني: الشيء المعرَّف.
(وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ) يعني: الجنس القريب والفصل القريب.
(كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ).