إذا قلتَ: وجود الباري انفصل تمام الانفصال عن وجود المخلوق، وهذا من قواعد التدمرية التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
فالمعنى الكلِّي موجودٌ في الذهن كالعِلم مثلاً، وهو مطلق الإدراك موجودٌ في الذهن، حينئذٍ يوصف الباري بالعِلم، والمخلوق يوصف بالعلم، لكن كيف هذا تشبيه؟ نقول: لا. ليس بتشبيه وإن اتفق اللفظ بالإخبار عن الباري بأنه يعلم، والمخلوق بأنه يعلم كما أخبر عن نفسه ((وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) [آل عمران:29] نقول: اللفظ متحد، ولا يلزم من اتفاق الألفاظ اتحاد الحقائق، هذا لا إشكال فيه.
يبقى القدر المشترَك؛ لأن المعنى هنا خُوطبنا بلغة العرب، فحينئذٍ نرجع إلى تفسير العِلم في لغة العرب، ونرجع إلى تفسير الرحمة في لغة العرب .. وهكذا سائر الصفات.
فننظر فيها: المعنى الذي يُذكر في كتب أهل اللغة، بعضُها قد لا يحتاج إلى لفظٍ كالمحبة والرحمة، هذه مدرَكة ضرورة لا نحتاج أن نعبِّر .. فسِّر ليَ الرحمة، الرحمة هي الرحمة.
ابن القيم لما ذكر المحبة في مدارج السالكين ذكر أظن أكثر من عشرة تعاريف، ثم قال: والمحبة تعريفُها هي المحبة، كلٌّ يُدرِك من نفسه معنى المحبة، فلا يحتاج إلى تعريف الكل يعرف.
حينئذٍ نقول: اللفظ مشترك ونرجع في معناه إن احتجنا إلى أن نعرِف معناه نرجع إلى لسان العرب؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب ولم يستثنِ يعني: لم يقل: هذه الأحكام الشرعية فسِّروها قولوا: الصلاة لغةً، والصلاة لها حقيقة شرعية.
وإذا جئنا عند الاستواء، وعند اليد، وعند النفس قلنا: هذه الله أعلم بها، كيف الله أعلم بها؟ كيف نفصِّل بين ما استوى ذِكْرُه في الكتاب والسنة، ولم يرِد حرفٌ واحد بأن نميز هذا عن ذاك، أعطني دليل؟ الكتاب واحد، وأعظم ما فيه ما يتعلق بذات الباري جل وعلا، أعظم من الصلاة، وأعظم من الزكاة، وأعظم من سائر الأمور المتعلقة بالأحكام الشرعية.
فكيف تأتي إلى هذه المسائل وتقول: الصلاة في اللغة كذا، ومعناها في الاصطلاح كذا، وخاطَبَنا الله تعالى بما نعلم، ثم تأتي بدلالة المطابقة والتضمُّن والالتزام، وتُجري قواعد لغة العرب على سائر الآيات التي تتعلق بالأحكام الشرعية.
وإذا جاءت الآيات الدالة على ما يتعلق بالباري جل وعلا، حينئذٍ انتفض؛ لأنه يقول: هذا ظاهره تشبيه، وإذا كان كذلك الله أعلم. فنأتي إلى تعليلات وأصول ما أنزل الله بها من سلطان.
إذاً "نرجع إلى مسألتنا" الوجود: له معنى في اللغة، فحينئذٍ له قدْرٌ مشترك في الذهن، هذان القَدران متحدان باعتبار الخالق والمخلوق، ولا إشكال فيه؛ لأن الذي أخبر عن نفسه بهذه الألفاظ هو الباري جل وعلا، وهنا هنا التسليم .. هنا التسليم أن تتكلم بما تكلم به الباري، وأن تُضيف إلى نفسه ما أضافه لنفسه. هذه هي الجرأة وهذا هو القبول، وهذا هو التسليم، وهذا هو الطاعة المطلقة.
وأما الدخول بالعقل وردّ ما قاله الله تعالى، هذا انحراف يعتبر، يعتبر ضلالاً.
القدر المشترك واللفظ لا إشكال فيه، ثم إذا أردنا الميْز والفصل .. إذا قلنا: وجود الله إذاً: امتاز وانفصل عن وجود المخلوق، بأي شيء؟ نقول: بالإضافة.