والبَدل هنا: اسم وقد يكون ظرفاً في غير هذا الوضع. فاذا كان اسماً كان بمنزلة البديل، قال سيبويه: وتقول: أن بَدَلَك زيداً، اي إن مكانك زيداً. قال: وإن جعلت البَدل بمنزلة البديل، قُلت: إن بَدَلَك زيدٌ، فلحِق بالأسماء. وأراد:) أوبدلُها (فجعل الألف واللا عوضاً من الإضافة، لأن كل واحدة منهما للمعرفة وجعل للمواهب) أيديا (تحكُما على الصنعة، وتأنقاً في البلاغة، وليُشعر أنه إنما وَازى به قول العرب فيما ينسب منه:) وُضِعَ على يدي عَدل (.
) يُشتاقُ من يِده إلى سبيلٍ ... شَوقاً إليه ينبُتُ الأسلُ (
السبَل: المطر، كناية عن العطاء، يقول: يشتاق إلى يده، حتى أن الأسل لا ينبت إلا ليباشر راحته، فيُروي بنائلها كَرَيه بالسحاب، بل أكثر. وإن شئت جعلت حظ الأسل من نائل كفه، ما يسقيها من الدم. وقوله: شوقاً إليه ينبت الأسلُ: جعله في موضع الصفة لسبل. وشوقاً مفعولاً من أجله، وهو يسميه سيبويه عُذراً لوقوع الأمر.
) فإذا حَمى أرضٍ أقام بها ... بالناسِ مِنْ تَقْبِيِله بَلَلُ (
اي إذا حل بحصى أرض، قبله الناس بين يديه، حتى تبل أسنانُهم اي تُقبل وتنعطف إلى الباطن. وحَصَى منصوب بفعل مضمر. اي إذا حل حصى أرض) وأقام بها (: تفسير للفعل المضمر، لأنه إذا أقام به فقد حله، وأراد: فباأناس، فحذف الفاء للضرورة، وهو كثير في الشعر، أنشد سيبويه:
من يفعل الحسنات الله يَشكُرُهَا ... والشرُّ بالشر عند الله مِثلاَن
اي فالله يشكرها. والهاء في) بها (راجعة إلى الحصى، لان الحصى يؤنث ويذكر، وكذلك كل جمع بينه وبين واحده الهاء. ولا تكون الهاء في) بها (عائدة إلى الارض لأنه لابد في الفعل من مُضمر يرجع إلى المفعول، الا أن يُحذف لضرب من الاستخفاف، كما قد بين سيبويه في غير موضع.
ولو كانت الهاء راجعة إلى الأرض، ولم تَعُد إلى المفعول الذي هو الحصى، لقلت:) زيداً ضربت هنداً (مريداً) ضربتُ زيداً ضربت هنداً (. وهذا لا يقوله أحد، لابد في الفعل الظاهر من ضمير ملفوظ يه او مقدر، يعود إلى المفعول المنتصب بالفعل المضمر. وقال:) من تقبيله (: حَملاً على التذكير، والعرب تقول: شجر أخضر، وخُضر، وحصى أسود وسُود.
) لا تَلقَ أفرَ منك تعَرفُه ... إلا إذا ضَاقت بكَ الحيلُ (
يخاطب بذلك لوهوذان، يقول له: من عرفت أنه أثبت منك فراسة فلا تَعرض له ما وجدت عن لقائه مندوحة، ولا تحاربه ما أمكنتك مسالمته. يعظه بذلك، وكأنه مستهزئ به. فإذا ضاقت بك الحيلُ ولم تجد بُدا من لقائه، فقد استحققت المعذرة.
وقوله أفرس منك: صفة موضوعة موضع الاسم اي رجلاً أفرس منك. وحسن وضع الصفة هنا موضع الاسم، لأنها قد تقوت بقوله:) منك (. وأيضاً فإن منك مناسب للاضافة، والمضاف اسم. وتعرفه: جملة في موضع الصفة، كأنه قال: لا تَلق رجلاً أفرس منك، معروفاً لديك.
) فَوقَ السماء وفَوق ما طَلَبُوا ... فإذا أرادُوا غايةً نَزَلُوا (
اي رتبتهم في أرفع الغايات من الرتب. بحث لا يمكن مَزيد إلى فوق، فإذا أرادوا غاية ما غير تلك الغاية، نزلوا إلى الأسفل منها، اذ لا تمكن غاية إلى فوق، لأن مراتبهم في أسنى الغايات وأرفع النهايات. وقد قال هو في هذا المعنى بعينه:
وقالوا هل يُبَلعُك الثُّرَيا ... فقلت نعم إذا شئت استفالا
وله ايضا:
) ليس كما ظنَّ غَشيةٌ عَرَضَت ... فجئتنى في خِلالها قاصد (
كان أبو الطيب توقع أن يلومه محبوبه لنومه بعده، وحُملمه بخياله فيه. فقال: لعل مرسلك إلى أيها الخيال، ظن أنى نائم، أوخلتنى أنت يا خيال كذلك، ليس كما ظننتماه، حالى أشدُّ من أن أنام عليها، وانما هي غَشية. فإن الباشق يُغشى عليه، وليس من شأنه أن ينام فلا ألحقن منكما ملاماً، لأني لم أخل بحق العشق إذا لم أنم. وانما كنت مُخلا به لو نمت، فجئتني في خلالها قاصداً، اي في خلال تلك الغَشية. وعيادة الخيال اياه في تلك الحال، أبلغ وأعرف من عيادته اياه في حد النوم، لأن المغشى عليه بمنزلة الميت، والنائمُ قد يدرك أشياه كثيرة مما يدركه اليقظان، كالضحك والاحتلام وغير ذلك وما علمنا أحداً من الشعراء ذكر أن حيالاً ألم به في غَشية الا هذا.